إبلاغ عن خطأ
ملحوظات عن القصيدة:
بريدك الإلكتروني - غير إلزامي - حتى نتمكن من الرد عليك
انتظر إرسال البلاغ...
|
مقطع عرضي لمدينة |
كمْ ابتعدْنا عن هوى بغدادْ |
كمْ ابتعدْنا عن هوى بغدادْ |
كمْ ابتعدْنا عن أناقةِ المياهْ |
وبابلٌ تحتَ الأبابيلِ |
قصيدةٌ لها ملامحُ الأجدادْ |
كم ابتعدْنا عن هوى بغدادْ |
وكمْ تفتَّحتْ وراءَ لَعثماتِنا مَسافهْ |
ودجلةٌ يرزُمُ في حقيبةٍ ضِفافَهْ |
يرحلُ، كي يسألَ عنَّا، |
حاملاً تكسُّراتِ الكرْخِ والرصافهْ |
على السهولِ دمعةٌ |
تبحثُ في خِزانةِ الغروبِ عن بكاءْ |
وفي البعيدِ كانتِ الشمسُ تَضيعُ، |
تَمَّحي الأسماءْ |
حُنَيْنُ ماعادَ إلى البيتِ، |
وخُفَّاهُ مُعلّقانِ في المَزادْ |
سأَنطلي على الدروبِ كي أراهْ |
موعدُنا بينَ رصاصتَينْ |
سأقْتفي دمي لكي أراهُ |
قالَ غلامٌ: قد رأيتُهُ ضحىً |
مُخَضَباً باسمِهِ بينَ سَحابتَينْ |
قالَ فَتىً: رأيتُهُ يخطُبُ بالمَوتى |
قُبَيلَ الفجرِ في مقبرةٍ، ويقرأُ المياهْ |
لابدَّ أنْ أراهْ |
وأنْ أرى احتكامَةَ الحُكّامِ في عينيهِ، |
وانسكابةَ السَّوادْ |
كم ابتعدْنا عن هوى بغدادْ |
وهي أنينُ ابنِ زُرَيْقٍ، |
إذْ سَباهُ القمرْ الكرْخيُّ أشواقاً، |
فماتَ فوقَ صخرةٍ، |
لكنّهُ مازالَ يأتي يطرُقُ الأبوابْ |
يُبعَثُ كُلَّ لَيلةٍ، |
إذا التقى العشّاقُ في بغدادْ |
كمْ ابتعدْنا عن هوى بغدادْ |
وهي حَنِينُ ابنِ جُرَيْجٍ، |
إذْ يَصيحُ والِهاً: |
لي وطنٌ آليْتُ ألاَّ |
أخلَعَ الوحشةَ إلاّ فيهِ |
مهما التبسَ الإيابْ |
وهي فُكاهاتُ أبي دُلامةٍ، |
وَوَعْظُ بُهْلُولٍ، |
وإمتاعُ أبي حيّانْ |
وهي أبو نُواس الظريفُ، |
إذْ يَسألُ في الحاراتِ عن جِنانْ |
وأغنياتُ المَوْصِليِّ، |
والأصابعُ التي زَها بها زرْيابْ |
وهي الشناشيلُ التي |
كمْ زَلِقتْ شموسُنا منها، |
وكمْ مرَّ بها سُهادْ |
كمِ ابتعدْنا عن هوى بغدادْ |
وهي عُيونٌ للمَها وأدمُعٌ، |
ونجمةٌ تطْلُعُ مِنْ حَفاوةِ الشطآنْ |
وهي الندى الصَّيفيُّ، |
والجُسورُ فوقَ دجلةٍ، |
والسَّمَكُ السهرانْ |
وهي انخطافُ الهمسِ بين قُبْلٍة وقُبْلَهْ |
وهي بقايا عِطْرِ ألفِ لَيْلَهْ |
وهي هُطولُ الوَلَهِ الكَوْنِيِّ، |
والنخلُ، |
وحرْفُ الضادْ |
وهيَ جَنازةٌ، |
رماها الجُنْدُ فوقَ الجسْرِ يوماً، |
ثم نادَوا حولَها: |
هذا إمامُ الرافضينَ جاءكُمْ، |
وآخِرُ العُبّادْ |
فهرولتْ إليهِ آلافُ الحقولِ، والفصولِ، |
والمواسمِ التي أتْعَبَها الغيابْ |
وابنُ سُوَيْدٍ واقفٌ للآنَ فوقَ الجسرِ، |
مشدودٌ إلى الميعادْ |
كمِ ابتعدْنا عن هوى بغدادْ |
وهي تَكايا الأولياءِ، |
والمساجدُ التي ما رَطَنَتْ يوماً، |
ولا خافَ بها أذانْ |
وهي خُطى بِشْرٍ يَدُورُ حافياً، |
وقِبْلةُ الزهّادْ |
وهي تَواريخُ الحفيفِ، |
وانكشافاتُ الجُنَيدِ، |
والكُوى، والعِشقُ، والأفياءْ |
يومَ خرجْنا، |
كانَ في وداعِنا الرضِيُّ، |
بالعِمامةِ السوداءْ |
وكانَ قُرْبَ السورِ، |
حاسراً طعيناً، يُومِئُ الحلاّجْ |
يصرُخُ بالسيّافِ: |
هيَّا افتحِ الرِّتاجْ |
إنَّ نَديمي سوفَ يأتي، |
عَبْرَ تلكَ الريحِ والأمواجْ |
كان به مس من اليقينِ، |
فانحنى، |
ودَسَّ خاتَمَ الثورةِ تحتَ السورِ، |
غيرَ عابِئٍ بقامةِ الجلاَّدْ |
ثمّ اختفى، |
مُغرَورِقاً بالوجْدِ والإيماءْ |
كَفّاهُ في السماءِ نَجْمَانِ، |
وعَيناهُ على بغدادْ |
كمِ ابتعدْنا عن هوى بغدادْ |
وكمْ تَناءَتِ الغُصونُ، |
تحتَ غيمةٍ من التوعُّكِ المَديدِ، |
كنّا نسألُ الشهورَ عن حُنَيْنٍ الفقيدِ، |
إنْ كانَ إلى بُستانِهِ قدْ عادْ |
قالَ الخَفيرُ: |
قد تركْتُهُ بلا رأسٍ ولا خُفَّيْنِ، |
في السوقِ يُغنِّي باكياً، |
ويشتُمُ السلطانْ |
لم يُمهلوه لحظةً، |
ليكتُبَ العُنوانْ |
لكنَّنا بَعْدَ سنينٍ، |
عَثَرَتْ دماؤنا بِهِ، |
وكانَ حزنُهُ ضَفائرَ الشمسِ، |
تُغطِّي عَتَباتِ السجْنِ والسجّانْ |
ينزِلُ في القُرى، |
مع البُروقِ كلَّ مَرَّةٍ، |
ويُشعِلُ الأسوارْ |
يجلِسُ تحتَ نخلةٍ، |
ويَجْمَعُ الصغارْ |
وذاتَ يومٍ ناحلٍ قالَ لهمْ: |
تَذكَّروا، |
أنَّ الترابَ دفترُ اللهِ الذي |
تَخجَلُ منهُ النارْ |
وحِبْرُهُ السرِّيُّ هذهِ الدماءْ |
ثمَّ أَشارَ، |
نحو جَهْشةِ الغيابِ في عيونِهْم، |
وقالْ: |
الوطنُ الجنَّةُ، |
مهما ابتعدَتْ أقدامُكمْ عنْهُ، |
وماتَ خلفَكم نهارْ |
تذكَّروا موعدَنا هناكَ يا أطفالْ |
ثمَّ مضى مُبتعداً، |
يلْتَفُّ بالأسماءْ |
ويَسألُ الريحَ عنِ البلادْ |
وصوتُهُ يخضرُّ، |
كلّما تلاقَتْ فوقَهُ الأَمطارْ |
قدْ حفِظَ الأطفالُ ماقالَ لهمْ، |
ولم يَزَلْ يحفظُهُ النخيلُ، |
والأنهارْ |
وفي الربيعِ، |
تُقبلُ الطيورُ كي تزورَ ظِلَّهُ، |
وتُعلِنَ الحِدادْ |
ومالِكُ الحزينُ مازالَ حزيناً، |
في خرائطِ الرمادْ |
كمِ ابتعدْنا عن هوى بغدادْ |
وكمْ تشبَّثَتْ بنا أصابعُ |
وراودَتْنا أدمُعٌ عن نفسِها |
وانكسَرتْ شوارعُ |
أَصْفارُنا تراكمَتْ |
على يَسارِ الوقتِ أكْداساً، |
ولم يكُنْ لنا حصادْ |
كمِ ابتعدْنا عن هوى بغدادْ |
هناكَ لم تزَلْ لنا نوافذٌ، |
ولم يزَلْ في ساحةِ التحريرِ |
واقفاً جوادْ |
يُشير للآتينَ مُثْخَناً بدمعتَيْنْ |
وقُرْبَهُ كانَ ابنُ مَرْدانٍ على مِصطَبةٍ، |
يحترفُ النسيانْ |
حُروفُهُ عاريةٌ، |
ووجهُهُ يُشاكِسُ الزمانْ |
في الطَابَقِ الرابعِ مِنْ عِمارةٍ، |
كانَ ابنُ يوسُفٍ حزيناً، |
راحلَ العينيْنْ |
نَخْلُ السماوةِ استدارَ حولَهُ، |
وغِرْيَنُ النَهْرَينْ |
وكلَّما بكى بكَتْ بغدادْ |
مُظَفَّرٌ والأَبجديَّاتُ تُغَطِّيهِ، |
تَدُقُّ ساعةَ القِشْلَةِ في جبينِهِ، |
فيبدأُ الأسفارْ |
يحمِلُ دفتراً، |
وأسمالَ أبي ذَرٍّ، |
ويمضي في قطارِ الليلِ، |
مفتوناً بكلِّ نَسْمةٍ مرَّتْ على بغدادْ |
بغدادُ يا بَرْحيَّةَ النخيلِ، |
ياسبائِكَ الهديلِ، |
ياقارورةَ البكاءْ |
يا رعشَةَ اللّقيا، |
وطَعْمَ الماءْ |
بغدادُ هذا سيّدُ النخيلِ، |
يلتقيكِ تحتَ خيمةٍ، |
أَغْفى بها يقظانْ. |
يقطِفُ قيلولةَ نورسٍ، ويعدو هاتفاً: |
ما اشتبكَتْ عليكَ أَعْصُرٌ، |
ولا خَبا بليلِكِ الغزيرِ شَمْعَدانْ |
إلاَّ وكُنتِ للشموسِ مَرْفأً، |
وللضحى مِيناءْ |
بغدادْ |
على الخليجِ مُتْعباً، |
قد وقف السيّابْ |
وفيقة تفتَحُ شُبّاكاً لِلُقيْاهُ، |
وإقبالُ تناديهِ فلم يسمعْ، |
سِوى أغنيةٍ تَسيلُ مِنْ مقهىً، |
وراءَ الدمعِ، |
فيها نفحاتٌ من شَذى بغدادْ |
كمِ ابتعدْنا عن هوى بغدادْ |
عبْدُ الوهابِ والأباريقُ التي |
مامُلِئَتْ يوماً، |
ولا كانَ لها مكانْ |
عائشةٌ لم تأتِ بَعْدُ، |
كي تُريقَ شعرَها بين يديهِ، |
كانَ بابُ الشيخِ |
بابَ اللهِ في عينيهِ، |
والنهايةَ المِيلادْ |
ماتَ وحيداً كالنسورِ، |
عالياً في حَضْرَةِ الرياحْ |
مُلتبساً بنيزكٍ، |
يأتي مع الصباحْ |
جَبْهَتُه العريضةُ |
ارْتَمَتْ بها الراياتُ والبحارْ |
وفي شُحوبِهِ غَفَتْ بغدادْ |
بغدادْ |
خُطى الجواهريِّ في الساحاتِ غَضَّةٌ، |
وصَوْتُهُ الهديجُ، |
والطاقيةُ التي تلاقتْ |
تحتَها الأَضدادْ |
إذْ يُشعِلُ الدنيا بإصبَعَيْنْ |
ويَنزوي |
مُودِّعاً بدمعِهِ النُّدمانْ |
أوراقُ مقصورتِهِ التي |
مضى الموجُ بها، |
لابدَّ أنْ تَظهرَ يوماً، |
كشموعِ الخِضْرِ فوقَ الماءْ |
وجعفرٌ يعلمُ أنَّ جُرْحَهُ فَمٌ، |
وأنَّ قبرَهُ يدانْ |
بغدادْ |
كمْ أنتِ تغرَقينَ بالأسرارِ يا بغدادْ |
ظَلَّ الرُّصافيُّ على وِقْفَتِهِ |
رَغْمَ الصواريخِ التي مرَّتْ به |
والجوعِ والأحزانْ |
ينظُرُ نحْوَ دجلةٍ كعاشقٍ، |
وطائرٌ الفينيقِ حطَّ فوقَ كِتْفِهِ |
ولم تزَلْ رَغْمَ الليالي |
يدُهُ في جَيبِهِ |
وشارعُ الرشيدِ مازالَ |
لكلِّ ضائعٍ عنوانْ |
مرَّ الحُصَيْريُّ |
وكانتْ كأسُهُ تَختصِرُ الأشياءْ |
يَطوي خُطاهُ مُسرعاً |
لحانةٍ في ساحةِ المَيْدانْ |
يهتِفُ بالنادِلِ: إملأها، |
فإنّ الكَوْنَ مِثْلي ثمِلْ نشوانْ |
يخرُج في الفجرِ وقدْ بعثَرهُ السكْرُ، |
يغنّى طرَباً: |
كمِ اقتربْنا مِنْ هوى بغدادْ! |
كمِ اقتربْنا مِنْ هوى بغدادْ! |
ما عرَفَ الدنيا، ولا ذاقَ الهوى، |
مَنْ لمْ يَزُرْ بغدادْ |