إبلاغ عن خطأ
ملحوظات عن القصيدة:
بريدك الإلكتروني - غير إلزامي - حتى نتمكن من الرد عليك
انتظر إرسال البلاغ...
|
إلى جميلة التي سجَّلت إعجازاً في صبر المرأة الفلسطينية، عندما وقفت على الرصيف المقابل لركام بنايةالصنايع التي دمرها العدو الصهيوني بالقنبلة الفراغية لمدة أسبوعين تنتظر خروج جثة ابنها الوحيد غسّان |
صُرَاخٌ.. جُثَّةٌ أُخْرى، وَبُلْدوزَرْ
|
وصوتُ الريحْ. |
ورائحةُ الدِّماءِ تُحَطِّمُ الرِّئَتَيْن |
صراخٌ يشربُ الصمتَ الرَّهيبَ |
ويوقَظُ الحَذَرا، |
ومن جَوْفِ الرصيفِ تُطِلُّ عيناها |
كَقُنبلتَينْ |
تنتظرانِ أَمْرَ الصَّمْتِ واللُّقْيا.. لِتنفَجِرَا |
جميلةُ لا تصدقُ ما ترى .. والريحُ |
تنْثُرُ شَعْرَها المَبْتُوتَ |
في وَجهٍ كَقرصِ الشمسِ، يَنْهَبُهُ الأُفول |
ومرةً أخرى |
تَلِفُّ جديلةً شقراءَ في يَدِها وترسِلُها |
بلا وعيٍ إلى المجهول: |
أَيَّةُ غربة درزت على أقدامنا درزا؟! |
وأية أحجيات لم تزل تقعى |
على باب الغد المقفول |
أية قسمة ضيزى |
تحللنا على الموت الرخيصِ على الحراب |
على الأسى والحزن كيف تشاءُ |
تذبحنا على الأنصاب |
تنشرنا وتنسانا على الأقدار والأنياب |
تعشَقُ قتل أطيار الحقولِ |
وتعتقُ القططَ السمينةَ والكلابْ، |
فأيُّ حلٍّ فيه سكينٌ ونابْ؟ |
أي حل لا يُجلُّ النزفَ من ودج الرقاب؟ |
وكلكم شهداءُ، فانتفِضوا، |
وسحقاً للأسى والعارِ، والدنيا .. وأشباه الحلولِ، |
وشرعِ هذا الغابْ!!! |
وتحتال الدموع على التكتم، والتمرد، والعذابْ |
تجرُّ في خدَّيْ جميلةَ قصةً سوداء، |
في لون الحياة، هو الترابْ، |
يطير في الزحَم المريب لِحَمل أوصالٍ، |
تلاقطها الرجالُ من الركام |
فتستخفُّ بلا اكتراثٍ للأمام: |
فأي معنىً للفناءِ؟ |
وأي معنىٍ للقبور بلا أناسٍ؟ |
أي معنىً للحياة بلا أسًى؟ |
وتغوصُ بين المنقذينَ لعله غسانْ |
وخفّت كلُّ أنهارِ الدموع إلى اللقاءِ |
تزاحمت في مقلتيها |
أيها سيجرُّ هذا الكبتَ والكتمانْ؟ |
وفوق لسانها شبَّ الصراخُ |
فكاد يحترق اللسانْ. |
وتستديرُ إلى الرصيفِ فذاك يوسفُ |
إبنُ بائعة الحليبِ، |
وأين ساره؟ |
أين قاهرة الشقاء؟ |
ومن تراه يشيع الخبر الحزينَ، |
يكون قنبلةً يفجر قلبها، |
ويَذَرُّ في غدها الفناء؟ |
وكيف يشفيها العزاء، |
ولم تذر بيتاً على جسد المخيمِ |
لم تَرِدهُ بِسََطلها!!! |
خمسين قرشاً كل ما تجنيه من سَفرِ الحليبِ، |
لتشتري منه ليوسفَ |
ربما قلماً ودفتر |
أو إذا فاضت أيادي المحسنينَ |
أتت بسكّرةٍ لكوثر |
كيف يكفيها العزاء لفقده؟ |
لم يبق حي أو زقاق أو فناء |
ولم يطرزْه الحفاء |
وذلك الصوت الرتيبُ |
هنا الحليبُ .. هنا الحليبُ |
على شفاهٍ ترتوي قصصَ الأسى |
من أمسها المنكوبِ |
تسردها لأطفال المخيمِ، |
مثلَ حسرتها على فمها تذوبُ .. تذوبْ |
.. وتسحبها من الهذيان حوقلةُ الرجالِ، |
وجثةٌ أخرى، وزغردةُ النساء، |
وخرقةٌ بيضاء تُخرجُها عن الصمت الدماء، |
وفي العراء، |
وبين أنقاض الزمان ونكبة الدنيا، |
تُجاذِبُها الجُنونَ وتَستَبِدُّ بلُبّها، |
قُطُفٌ مُنَشّرةٌ على الأشلاءِ |
تَسرقها العيون . |
ويُدركها المساء |
وروحُها لمّا تزلْ تسعى على اللحم الممزقِ |
مَنْ سيرتق هذه الأمعاء؟! |
من سيخيطُ أميالاً من الجرح العميق؟ |
وأين غسانُ؟ |
ويفجِعُها السؤالُ: أماتَ!؟ |
وابتدأت تخافُ، |
ومرََّ أسبوعان، لم يخرج إلى الدنيا |
ليروي قصةَ الماء البعيد، |
وقصةَ النهر الذي يجري، |
لهيباً أو دماً وصديدْ |
ويفجعها السؤالُ: أماتَ؟ |
وانصدعَتْ بأعلى الصدرِ، |
روحٌ كاد ينزعها الأسى |
لولا بقايا من ركامٍ لا تزالُ |
تقيلُ في ظل الحريق |
على الثرى وتأرجحَ الأملُ القتيلُ |
أمام عينيها على عرض الطريق، |
فأمّلتْ .. وتنهدتْ . |
وتهزها جثثٌ تَلاحق في النشورِ، |
فتستفيق، |
على الحقيقةِ: ماتَ غسانُ . |
وهذا الردمُ والأنقاضُ ترقص فوقَهُ |
غسانُ ماتْ |
وماتَ في رجع الذهول صراخُها: |
غسانُ، يا هبةَ الملوك إلى مقام اللاتْ |
يا ابن الريحِ، يا ابن الموتِ |
يا ابني، يا ابن أمسية اللجوءِ |
ويا قتيل الصمتِ |
يا ابن الرحلة الأولى |
ويا ابن النزحة السوداء |
يا ابن اليُتم |
يا قربان هذي الأمة الحمقاء |
واندفق البكاء |
ومن دموع الفجع نز عناء: |
مع الإعصارِ، والتيارِ |
مَنْ كفن الحياة يعود غسانُ |
ومن خلف الحدودِ |
مع الورودِ يعودُ غسان |
من الخوفِ، |
من الحرفِ، |
من النزفِ الذي سيجرُّ أنهار الكرامةِ |
في غدي، سيعودُ غسانُ |
ومن حلق الفناء يعود غسانُ |
من السفَر العنيدِ |
ورحلةِ الماء البعيدِ |
يعودُ غسانُ |
إلى الأرض الحزينةِ، لي ... |
غداً سيعود غسانُ |
غداً سيعود غسانُ،،، |
ويومٌ آخر يمضي، |
ولا زالتْ جميلةُ تقتُلُ الساعاتِ واقفةً |
وتفترش الرصيفَ إلى الصباحِ |
تشُدُّ جفنيها |
إلى خَلَلِ الركامِ |
فربما .. |
غسانُ يخرج كي تراهُ |
.. ولن تراهُ |
فقد دنا يوم الرحيلِ |
ولم يزل غسانُ |
يبحثُ في الجحيمِ عن المياهْ!! |