إبلاغ عن خطأ
ملحوظات عن القصيدة:
بريدك الإلكتروني - غير إلزامي - حتى نتمكن من الرد عليك
انتظر إرسال البلاغ...
|
فِي تِلكَ الليلةِ، كانَ الليلُ طَوِيلاً |
وصَهيلُ الرِّيحِ يَدُقُّ البَابَ، |
بِتِشرين الثَّانِي. |
في تِلكَ الليلةِ، أُمُّي تَصرُخُ، |
وَالعَرَقُ المُتَصَبِّبُ فَوقَ الجِلدِ |
حُبَيبَاتُ نَدَىً!. |
فَالطَّلقُ شَدِيدٌ، |
وَالمَدفَأةُ البَاعِثَةُ الدِّفءَ |
تُرَاقِبُ فِي صَمتٍ مَا يَجري. |
لَهَبُ القِندِيلِ يُقَاوِمُ إعيَاءً دَبَّ بِهِ، |
وَأبِي تَلبَسُهُ الحَيرَةُ! |
يَمسَحُ عَن أُمُّي العَرَقَ البَارِدَ، |
يُغلِقُ بَابَ الدَّارِ |
وَتُخفِيهِ الظُّلمَةُ فِي عَجَلٍ. |
فَالوَقتُ قَصِيرٌ لا يُسمَحُ بِالتَّأخِيرِ |
يُتَمتِمُ: يَسِّر يَا رَبِّ وَلا... |
يَتَلاشَى فِي الرِّيحِ، |
وَحِيداً.. |
فِي الدَّربِ، تُلاحِقُهُ خُطُوَاتُه! |
فَوقَ البِرَكِ المَائِيَّةِ، |
تَرسُمُ آثَارَاً يَمحُوهَا المَاءُ، |
يَدَاهُ، تَلمَّسُ بَعضَ نُقُودٍ: |
تَكفِي، لا تَكفِي..؟ |
هَزَّ الرَّأسَ: |
سَتَكفِي، « فَالسَّرَّارَةُ » طَيِّبَةٌ، |
وَعَلى يَدِهَا كَانَ الخَيرُ.. |
ثَلاثَةُ أطفَالٍ مِن قَبلُ، |
وَهَذَا الرَّابِعُ! |
الطُف يَارَبُّ. |
عَلَى استِيحَاءٍ، فِي تِلكَ الليلَةِ |
مِن تِشرين الثَّانِي. |
قَرَعَ البَابَ، وَأرجَعَ خُطوَتَهُ. |
انتَظرَ، |
: الرحمةَ...! |
كَرَّرَ ثانية، |
والصَّوتُ الخَائفُ مِن خلفِ البابِ |
تَقَطَّعَ: مَن، مَ...ن أن...تَ؟ |
أبو مُوسَى، هَيَّا امرَأتِي تَلِدُ، |
الطَّلقُ يُحاصِرُها. |
*** |
أُمُّي فِي البَيتِ تلَوَّى |
مَا زَالت. |
وَأخِي الأكبَرُ فَي تِلكَ اللَحَظَاتِ |
استَيقَظَ، أُمُّي رَمَقَتهُ! |
وَالحَيرَةُ فَوقَ مُحَيَّاهُ: |
هَذَا الطِّفلُ البِكرُ. |
رَجَتهُ فَقَد صَارَ كَبيرَاً! |
أَن يَذهَبَ رُغمَ البَردِ إلى خَالَتِهِ، |
فَالدَّربُ إِلَيهَا لَيسَ بَعِيدَاً. |
*** |
فِي تِلكَ الليلةِ، |
كَانَ أبِي مَعَ أكبَرِ أطفَالِهِ |
خَارِجَ غُرفةِ أُمُّي، يَقِفَانِ.. |
كَأنَّ الطَّيرَ عَلى رَأسِ أخِي الأكبَر! |
خَلَعَ « السُّترَةَ » لفَّهُ فِيهَا |
فَأبِي لَيسَ بِحَاجَتِهَا. |
عَظمُ الأطفَالِ طَرِيٌ لا يَحتَمِلُ البَردَ |
وَعَظمُ أبِي خَشِنٌ!؟ |
قَبَّلَهُ.. |
كَبِرَ الطِّفلُ بِعَينِ أبِيه، |
رَجَلاً صَارَ، وَيُمكِنُ أن يَعتَمِدَ عَليهِ. |
فغَدَاً يَأتِي بِالخُبزِ، وبِالخُضرَةِ، |
يَرعَى إخوَتَهُ، وَيُسَاعِدُهُم فِي الوَاجِبِ |
فَأبُوهُ أُمِّيٌّ |
لم يَدخُل مَدرَسَةً أو « خُوجَا »!. |
*** |
فِي تِلكَ الليلةِ، مَا زَالَت تَصرُخُ أُمُّي |
والخَالَةُ تُحُضِرُ أشيَاءً تَطلُبُهَا « السَّرَّارَةُ »: |
المَاءُ الفَاتِرُ، و« الطِّشتُ » وأشيَاءٌ أُخرَى.. |
وَالمَدفَأةُ البَاعِثَةُ الدِّفءَ أفَاقَت، |
وتَرَاقَصَ فِي القِندِيلِ اللَّهَبُ الأصفَر. |
مَا زَالَ العَرَقُ البَارِدُ، مِثَلَ حُبَيبَاتِ نَدَىً |
يَنضَحُ مِن أُمُّي، |
فَتُجَفِّفُهُ الخَالَةُ، |
فَالسَّرَّارَةُ تُؤلِمُهَا بِالضَّغطِ عَلى البَطنِ المَنفُوخِ |
كَقِربَةِ مَاء! |
: سُبحَانَ اللَّه |
هَذَا الطِّفلُ شَقِيٌّ!! |
يَصرُخُ.. |
تَبتَسِمُ الخَالَةُ |
تُغمِضُ أُمُّي فِي فَرَحٍ وَتُدَارِي دَمعَتَهَا |
: وَلَدٌ ثَالِث!؟ |
حَمدَاً للَّه |
تَهمِسُ فِي أُذنِ الخَالَةِ، |
تَهرَعُ لِلخَارِجِ: مَبرُوكٌ |
وَلَدٌ كَالبَدرِ، وَلَد! |
وَتَعُودُ عَلَى عَجَلٍ، |
فَالسَّرَّارَةُ مَا زَالَت تَعبَثُ بِالطِّفلِ |
تُقَلِّبُهُ كَالدُّميَةِ بَينَ يَدَيهَا، |
تَغسِلُهُ بِمُسَاعَدَةِ الخَالَةِ، |
بَعدَ قَلِيلٍ يَسكُتُ، |
فِي « لَفَّتِهِ » سَيَنَام. |
أُمُّي فِي إِغمَاءَتِهَا |
وَالشَّعرُ اللَّيلُ المَنثُورُ، |
وَهَذَا الصَّدرُ الصَّاعِدُ، وَالهَابِطُ فِي عَجَلٍ |
« رُوجَاتُ » فُرَات. |
أُمُّي وَالقِندِيلُ يُضِيئَان!؟ |
وَهَذَا الدِّفءُ النَّابِعُ مِن عَينَيهَا |
لَفَّ الطِّفلَ، وَقَبَّلَ عَينَيهِ |
ذَلِكَ.. |
أخجَلَ مَدفَأةَ الغُرفَةِ، فَانطَفَأت! |
*** |
أبِي، وَأخِي الأكَبَرُ مَا زَالا فِي الخَارِج. |
يَبتَسِمُ الاثنَانِ، فَبُشرَى الخَالَةِ غَالِيَةٌ |
دَمعَةُ فَرَحٍ تَطفِرُ |
يَدنُو، يَحضُنُهُ: |
جِئنَاكَ بِطِفلٍ تَلهُو مَعَهُ |
وَغَدَاً سَتُعَلِّمُهُ، مِثلُكَ يَكبَرُ |
يَذهَبُ لِلمَدرَسَةِ، يَأخُذُ عَشرَة |
وَيَفُوقُ اِبنَ « الزَّنكِيلِ » بِحَارَتِنَا |
يَسبقُهُ، يَضرِبُهُ... |
مَاذَا سَنُسَمِّيهِ؟ اختَر مَا شِئتَ. |
أخِي فِي فَرَحٍ: « مُحَمَّد » |
جَدِّي قَالَ عَلى اسمِ نَبِينَا: |
« مُحَمَّد » |
أَردَفَ بِالهَمسِ أبِي: |
صَلَوَاتُ اللَّهِ عَليهِ، سَيَكُونُ كَذَلِكَ |
نِعمَ الاسمُ وَبِئسَ الفَقرُ، |
« وَمَا ضَاقَت إلاَّ فُرِجَت »!؟. |
*** |
فِي تِلكَ اللَّيلةِ، يَومَ وُلِدتُ |
أبِي سَهِرَ اللَّيلَ بِطُولِه، |
سَهِرَ القِندِيلُ وَحِيدَاً مَعَهُ، |
وَالبَردُ كَذَلِكَ!؟ |
لَم تَعرِف جَفنَاهُ النَّومَ |
فَمَا أحلَى تِلكَ اللَّحَظَةِ، |
مَا أَجمَلَ أن يُولَدَ طِفلٌ |
تَكتَحِلُ العَينَانِ بِهِ، |
وَيُسَرُّ بِهِ بَعدَ عَنَاءٍ أَبَوَاه! |
*** |
فَأبِي هَذَا، |
كَانَ وَما زَالَ صَنَوبَرَةَ الدَّارِ! |
وَرُغمَ الجَذعِ المَائِلِ تحَنَانَاً.. |
مَا زَالت قَاسِيَةً تِلكَ الأفرُعُ |
مَرَّ اثنَانِ وَسِتُّونَ خَرِيفَاً |
كُلُّ خَرِيفٍ يَهمِسُ فِي أُذنِ أخِيهِ: |
هَذَا الرَّجُلُ مَا زَالَت ثَمَرَاتُهُ |
تُزهِرُ كُلَّ رَبِيعٍ!؟. |
هَذَا الرَّجُلُ، |
مَن فَقَدَ اثنَينِ وَسِتِّينَ رَبِيعَاً |
حَتَّى يَكبَرَ أولادُه! |
قَد خَانَتهُ قَلِيلاً عَينَاهُ |
فَبَرِيقُهُمَا خَفَّ، وَلَمَّا... |
لَكِن مَا زَالَت تَنبُعُ حُبَّاً عَينَاهُ! |
فَأبِي هَذَا الكَوكَبُ، دُرِّيٌّ |
تَسبَحُ فِي عَينَيهِ تِسعَةُ أَقمَارٍ! |
تَغفُو مَا بَينَ الهُدبَينِ |
تُكَسِّرُ حُزنَ الأَيَّامِ، |
وَتَبتَسِمُ الشَّمسُ لَهُم كُلَّ صَبَاح!؟ |
فَأبِي هَذَا، |
عُنوَانُ الصِّدقِ مَعَ الذَّات |
لا يَخلِفُ وَعداً يَقطَعُهُ |
يَحرِمُ نَفسَهُ مِن لُقمَةِ خُبزٍ حَتَّى يُطعِمَنَا |
يَحرِمُ نَفسَهُ مِن كُلِّ جَدِيدٍ، |
مِن أَحذِيَةٍ وَثِيَاب، |
مِن مَا لَذَّ، وَطَاب. |
وَيُضَحّي .. |
فَيَدَاهُ لَم تَتعَب بَعدُ، |
أَبِي هَذَا الإنسَانُ عَجِيبٌ! |
وَخِصَالُهُ |
لا يُحصِيهَا عَدُّ |
كَمَا لِلدَّيرِ فُرَاتٌ، |
صَارَ فُرَاتُ البَيتِ أبِي.. |
فَنِعِمَّاهُ! |