جَدَثٌ بمدرجة الرياح مُعفّرُ |
البُومُ ضَيفُ تُرابِه والقُبَّرُ |
ذَاوِي الرُّسومِ مِنَ الْبلى فكأنَّهُ |
أَثُرُ النّمال مشتْ عليه الأعْصُرُ |
أو خطّ رملٍ أنشأتهُ بنانةٌ |
"لسطيح" من ماضي الدّهور مُسَطّرُ |
أو حكمةٌ مرقومةٌ في معبدٍ |
مُتهدّم شابتْ عليه الأسطرُ |
أو نقشةُ في حانةٍ مَهجورةٍ |
ألجامُ صُفّاحٌ بها مُتبعثرُ |
عبرتْ عليه الريحُ كاسفةَ الخُطا |
موهونةً فوق الثرى تتعثّرُ |
والليلُ أطرقَ واجماً فكأنّهُ الزّنجيُّ |
في حلكِ الأثير يُفكّرُ |
والنجمُ يخفقُ رحمةً فتخالهُ |
عيناً من الغيب المسَتّرِ تنظرُ |
والنيل حين جرى بجانبهِ سرتْ |
في موجهِ البلوى وكادَ يزمجرُ |
والعبقريّةُ أعولتْ مشدوهةً |
ثكلى تَفجّعُ صوبَهُ وتحسّرُ |
قالتْ وقد شهدته منبوذ الحمى |
وحفيرُه في البيدِ أشأمُ أغبرُ |
والسافياتُ شددنَ من أوصاله |
قصبا تزفُّ بجانبيه فيضفرُ |
ونشرن من أكفانه رغم البلى |
طاراً عليهِ يدُ النسيم تُنقّرُ |
وهزجن والبؤس المخلّد مائلٌ |
كالأمس في حرم الردى يتبخترُ |
وأقمن عرسًا ماج فوق ترابهِ |
يلهو به جنُّ الفلاة ويسمرُ |
يا قبرُ لي تحت الصفائح شاعرٌ |
تاريخه من نحسهِ متفجّرُ |
عبر الحياة فما صغت لنشيدهِ |
أُذُنٌ ولا واستْه عينٌ تبصرُ |
فكأنما ألحانهُ تأويهةٌ |
في الليل ردّدها شجٍ متحيّرُ |
أو دمعةٌ محنوقة وقفت على |
شط الجفون سجينةً لا تعبرُ |
أو دعوةٌ محبوسةٌ في مهجةٍ |
جلّى هُداها في الدُّجى مستغفرُ |
أو همسةٌ في الغاب تائهةُ الصدى |
أبلى نُفاثتها الظلامُ المصحرُ |
دنيا من النسيان أُلْقِيَ مهدُه |
فيها وسوّيَ لحدُهُ المتهجّرُ |
ونصيبهُ بعدَ الفناءِ مصفّقٌ |
يهذي لراثٍ في المنابرِ يَهترُ |
ومهلّلونَ لشاعرٍ مُترنّمٍ |
يلغو بأسجاع البيان ويهذِرُ |
يا قبرُ هدّ بِناكَ عن جنباتهِ |
مَنْ قال نسلُ العبقرية يقبرُ |
فا هتزّ مُرتاعًا وغمغم جاثياً |
ومضى يهلّلُ نحوها ويكبّرُ |
لا تجزعي فهُنا الخلودُ وسرّهُ |
خافٍ على كلّ العقول مستّرُ |
لا تحسبي قبب الرخام أظلّها |
بالسّرو ريّانُ الفروع منضّرُ |
نفضت بساحتها العطارُ جيوبُها |
فالمسكُ يسطع تحتها والعنبرُ |
وأحالها فنُّ المصوّر آيةً |
سرتِ الحياةُ بها فكادت تطفرُ |
ومضت بها التيجانُ تلمع في الدّجى |
كسرى نزيلُ رحابها أو قيصرُ |
أزكى ثرًى من حُفرةٍ مطموسةٍ |
دفنت بها ميْتاً لديها عبقرُ |
تذرى ويذرى العظم في هبواتها |
والخلد من ذرّ التراب منوّرُ |
هذا ربيبكِ أعظمٌ منسيّةٌ |
رجفت لها في الخافقين الأدهرُ |
في مهرجان الخالدين حديثه |
نغمٌ على شفةِ الخلود معطّرُ |
حشدت له الأهرام ذكراً لو عدا |
فيها البِلى لصبا إليهِ المحشرُ |
في كلّ محرابٍ بها وبنيّةٍ |
شادٍ يرتّل لحنه ويكرّرُ |
شعرٌ إذا ما القيد صلّ حديده |
في ظلّها يُضرى لظاهُ فيصهرُ |
هزّ الجنوب بثورةٍ صخابةٍ |
يغلي بها صمت القصيد ويسعرُ |
تسري فيرهبها الطغاة فتبري |
كالموت لا تبطي ولا تتأخرُ |
من راح ينكرُ حاسدًا أصداءها |
هذا دمُ الشهداء منها يقطرُ |
في دنشوايَ لها رنينٌ خالدٌ |
زعجَ الزمانُ دويّهُ المتسعّرُ |
سجدت لصرخته المشانق رهبةً |
وارتاعَ من خفقانها المتجبّرُ |
وأناملُ الجلاد ودّت رحمةً |
لو كلّ أنملةٍ عليها خنجرُ |
ترتدّ في عنق الذي يهوي بها |
قدرا يذودُ عن البريءِ ويثأرُ |
تخذوا الحمامَ إلى الحمامِ وسيلةً |
شنعاءَ واهتاجوا هناك وزمجروا |
نصبوا مشانقهم لنا فكأنّنا |
قطعانُ شاءٍ في المجازر تُنحرُ |
ولو انّها نطقت لصاحت في الورى |
كيدٌ لمصر وحويةٌ لا تغفرُ |
إن كان بطشهم تكبّر عاتياً |
فالله والوطن المفدى أكبرُ |
قمْ عاشقَ النيلِ استفقْ فصباحهُ |
حيرانُ في الشّطينِ أغينُ أصفرُ |
صديانُ ما نقع الندى لغليلهِ |
شوقاً ولا روّاهُ موجٌ يزخرُ |
لهفانُ ينتظر الذي غنى له |
ويصيح في نور الخميل ويزأرُ |
أينَ الندى والسلسل المسكوب من |
نغمٌ صداُ بلا آثامٍ يُسكرُ |
أين البلابل في الضحى مسحورةً |
بالشدو أنطقها الربيع المزهرُ |
من شاعرٍ نهب الضحى وأذاعهُ |
لحناً يغردُ في الربى ويصَفّرُ |
ما شدّ أوتارًا له أو أرغناً |
بل كان شطّي في يديه المزهرُ |
ولهٌ بمصر وهزةٌ في قلبهِ |
بغرامها كاللجّ راحت تهدرُ |
وهوًى أحال الشرق قلباً ثانياً |
في صدرهِ بِأسَى النوازل يشعرُ |
سلْ غادة اليابان كيفَ أهاجها |
في الروع عن ضافي الثياب تُشمّرُ |
تمضي بمشتعلِ السّنان فإن قسا |
تأسو جراحات السنان وتجبرُ |
واسمع نشيد الأرز في لبنانِهِ |
بردى يكاد بسحرهِ يتخدّرُ |
والحور منتفض الغدائر راقصٌ |
نشوانُ من رجع الغِناء مُطيّرُ |
شادٍ بأظلالِ الجزيرةِ ساجلتْ |
ألحانَهُ تحت الصنوبر دمّرُ |
أسرى إلى الدنيا الجديدة صوتُهُ |
فاهتزّ من طربٍ لديها المهجرُ |
واسَى النزيل بها فكاد غريبها |
يعييهِ للوطن الحبيب تذكّرُ |
سل عنه في يوم الإمام خريدةً |
وضحُ الهدى من صفحتيها مُسفرُ |
فزعت إلى القبر الطهور وقلبها |
جزعاً عليه من المحاجرِ يقطرُ |
بالأمسِ علّمها التصبّرَ في الأسى |
وطحت بها البلوى فكيف تصبّرُ |
هتفت به يا موقظ الإسلام قُمْ |
فالشرق بعدك واهنٌ متعثّرُ |
كادت مآذنهُ تميد قبابها |
وأَذانُها يَرثي ويهوي المنبرُ |
يا ومضةً من كاملٍ قد أشرقتْ |
فيضاً مِنَ النعش الطهور يُحدّرُ |
هاجت على أوتار شاعره لظًى |
متخشّعاً يخفي اللهيب ويسترُ |
تذكو فيرهبها الجلال فتستحي |
فتدسّ أنفاس الضرام وتضمرُ |
الشعلة الأولى بوادٍ مظلمٍ |
هالاتها من أصغريهِ تنوّرُ |
قلبٌ كأنّ النيل أرضعهُ الندى |
في المهد قدسيُّ الشغاف مطهّرُ |
فإذا يجنّ لمصر تحسبه الصبا |
في فجرها فوق الخمائل تخطرُ |
وإذا يثور لها تخالُ مروجها |
غيلاً يهيج على ثراه القسورُ |
مجنون بالأوطان تحت لسانهِ |
وجنانهِ نبعٌ لها متفجّرُ |
إن الجنون بمصر أروعُ حكمةٍ |
يوحى بها شرع الوفاء ويأمرُ |
قم عاتب الأوطان حافظُ هاتفاً |
بهواه إن جنانها متحجّرُ |
شعرٌ إذا ينساهُ شعبُكَ جاحداً |
فالنيل في يوم الفخار سيذكرُ |
خبلَ الحزانى حين رنّ لبُؤسهم |
غرباءَ بالعَوْدِ المفاجيء بشّروا |
يأسو وأجراحُ الزمان دفينةٌ |
كسرائرٍ في قلبه لا تنشرُ |
أذكى أسايَ ولم أر الشادي به |
لكنّهُ نسبُ الجحود مؤصّرُ |