إذا نثرَ الناسُ الهِرَقْليَّةَ الصُّفْرا |
نثرتُ على عليائك الحمدَ والشُّكرا |
وصغتُ من الذهن المصفَّى بدائعا |
أقرِّط أسماعَ الرُّواةِ بها شَذْرا |
فلا تحسبَنَّ الدُّرَّ في البحرِ وحدَه |
فقد تُخرِج الأفواهُ من لفظها دُرَّا |
ومن كان جسمَ المكرمات وروحَها |
تحلَّى ثناءً لا لُجينا ولا تِبرا |
يُحيَّا برَيحان المحامدِ سمعُه |
ويكفيهِ أن كانت مناقبه عِطرا |
ولست براضٍ غيرَ وصفك تحفةً |
ولا قاضيا إلا بمِدحتك النَّذرا |
بلغتَ عميدَ الدولة الغايةَ التي |
ركائبُ أنباءِ المنى دونَها حَسرَى |
وما زلتَ تُغلى المجدَ حتى جعلتَهُ |
عليك حبيسا لا يباعُ ولا يُشرى |
وكم طالبٍ فيه نصيبا وإنه |
ليَقبِضُ كفَّيْه إذا عَرف السِّعرا |
تطيعك في المعروف نفسٌ حيِيَّة |
إذا سُئلتْ جدواك تستقبحُ العُذرا |
أظنُّك في الدنيا تُريد زهادةً |
فلستَ بمستبقٍ لعاقبةٍ ذُخرا |
وقد كانت النَّعماءُ جادت بنفسها |
فأنشأتَها في عصرك النشأةَ الأخرى |
مواهبُ يُعطين الغنىَّ على الغِنَى |
مَزيدا ويتركن الفقيرَ كمن أثرى |
يوافين سراًّ والسحابُ برعدها |
تبوح بما توليه إن أرسلتْ قَطرا |
فدّى لك صيفىُّ الغمامة في الندى |
يَظُنّ سؤالَ السائلين به مكرا |
إذا حامت الآمالُ حول حِياضه |
سمعنَ بها من كلِّ ناحيةٍ زَجرا |
ألستَ من القوم الذين نداهُمُ |
حبائُلهم والراغبون بها أسرى |
يبيتون في المشتى خِماصاً وعندهم |
من الزاد فضلاتٌ تُصان لمن يُقرى |
خشَوا أن يضِلَّ الضيفُ عنهم فرفَّعوا |
من النار في الظلماء ألويةً حُمرا |
أفادوا الذي شاءوا وأفنَوه عاجلا |
فقد جمعتْ أيديهم العُسرَ واليُسرا |
تواليك حباَّتُ القلوب كأنما |
خُلقتَ سرورا في الضمائِر أو سِرّا |
فإن كانت العينان داعيةَ الهوى |
فقد أبصرتْ من شخصك الشمسَ والبدرا |
وإن كان للنفس الطروبِ تتيُّمٌ |
فأجدرُ أن تَهوَى خلائقَك الزُّهرا |
فقد جنَح الأعداءُ للسّلم رغبةً |
إليك وأىّ الناس لا يعشق البِرّا |
فأما سَقام الحاسدين فما له |
شفاءٌ وقد كادتهُمُ نِعَمٌ تَتْرَى |
تسوت يداك بسطةً وسماحةً |
فلم تفخر اليمنى بفضل على اليسرى |
ومعترَكٍ للقوم مزَّقتَ جمَعه |
بحدِّ لسانٍ يُحسن الكرّ والفرّا |
وفحشاء أدّتها إليك جهالةٌ |
جعلتَ رتاجَ الحلم من دونها سِترا |
سما بك فوق العزّ قلبٌ مشيَّعٌ |
إذا ركب الأهوالَ لم يستشر فكرا |
وهمّةُ وثَّابٍ على كلّ ذِروةٍ |
يَنال على أكّدها النَّهىَ والأمرا |
ألا ربَّ ساعٍ في مَداك كَبتْ به |
مطاياه أو قالت له رِجلُه عَثْرا |
وملتمِسٍ في عدِّ فضلك غايةً |
ومن يَشبُر الخضراءَ أو ينزِف البحرا |
خذوا عن غُبار الأعوجيَّات جانبا |
وإلا فقد ضيعتمُ خَلفها الحُضرا |
وخلُّوا لهذا البازلِ القَرِم شَولَه |
فإنكُمُ لم تَحذِقوا الهَدْر والخَطْرا |
فتىً سالَبَ ألأعداء حِرصا على العلا |
فأجلَوا له عنها وما عَقَد الأُزْرا |
وهل يُعجب الروضُ المنوّرُ أعينا |
رعَتْ في محيّاه الطلاقةَ والبِشرا |
كأنَّ الحياءَ انهلَّ في وجَناته |
فكانَ لها ماءً وكانت له غُدْرا |
تحدّثه الغيبَ الخفىَّ طنونهُ |
فتحسبُها قد أودِعتْ صُحُفا تُقرَا |
وقالوا هو الغيث الذي يغمرُ الربىَ |
فقلت لهم ما زدتموني به خُبرا |
فقالوا هو الليثُ المعفِّر قِرنَهُ |
فقلت بحقّ الله أيُّهما أجرا |
حلفت بها تَهوِى على ثَفِناتها |
من الأين مرخاةً أزمَّتُها صُعرا |
تجرِّر أذيالَ الرياح وراءَ ها |
إذا كتبتْ سطرا محتْ قبلَه سطرا |
تَنَزَّهُ عن حَمل الأوانسِ كالدُّمى |
وتحمِل في كِيرانها الشُّعثَ والغُبْرا |
إلى حيث لا تُجزَى بحسن صنيعها |
إذا ما قضَوا نُسكا جزَوها به نَحرا |
وبالبيت محفوفا بمن طاف حوله |
إطافةَ سِمطىْ لؤلؤ قلّدا نحرا |
تُفاضُ سجوفُ الرَّقم في جبناته |
على ماثلٍ تَعرَى السيوفُ ولا يعرى |
حمىً لا يخاف الطيرُ في شجراتهِ |
قنيصا ولا تخشى الظباءُ به ذُعرا |
وبالحجرِ الملثومِ سمعا وطاعة |
ونعلم أنْ ما يملك النفع والضرا |
لأنت إذا صَكُّوا القِداح على العلا |
أحظُّهمُ سهما وأسرعُهم قَمرا |
وأعلاهُمُ كعبا وأحلاهُمُ جَنىً |
وأوفاهُمُ عهدا وأرفعُهم ذِكرا |
كفاك نجاحُ السعى في كلّ مطلب |
هممت به أن تزج الأدم والعفرا |
بعزم كما أطلقن أنشوطة الحبى |
وجِدٍّ كما نفَّرتَ عن مَربإ صَقرا |
رأيتك طودا للخليفة شامخا |
وسيفا على شانيه يختصر العمرا |
إِذا عرَضتْ حَوجاءُ كنتَ قضاءَها |
وإن طرَقتْ غَمّاءُ سَدّ بك الثغرا |
دعاك لأمرٍ ليس يُحكِم فتلَه |
سواك وهجِيِّراك أن تُبرمَ الأمرا |
فأرسلتَها من بابلٍ وكأنما |
تُقلِقلُ من تحت السروج قَطاً كُدْرا |
صدمَت بها الأجبالَ والقُرُّ كالحٌ |
تجلّلها ثلجا وتُنعلها صخرا |
تَذكَّرُ مَرعىً بالعراقِ ومورِدا |
وهل ينفع المشتاقَ ترديدُه الذكرا |
إذا رَبأتْ في قُنَّةٍ خِلت أنها |
خُدارِيّةُ العِقبانِ طالبةً وَكرا |
فزاحمن فيها الشُّهب حتى طمعن أن |
يحلَّين منهنّ القلائدَ والعُذْرا |
بكلِّ منيفٍ يقصُر الطيرُ دونه |
ولا تجد النكباءُ من فوقه مَجرى |
وطودٍ بحولىّ الجليدِ معمَّمٍ |
كما زار لونُ الشيب في هامةٍ شَعرا |
كأنا كشطنا عنه جِلدةَ بازلٍ |
كسا شحمُه جنبيه والمتنَ والظهرا |
أقامت به ألأنواءُ تُهدى لك القِرى |
ولم تقتنع بالماء فاحتلبت دَرَّا |
فرشنَ بِكافورِ السماء لك الربىَ |
فشابهنَه لونا وخالفنَه قِشرا |
اذا خلَصت منها الجيادُ رأيتها |
وما خالطت لونا محجَّلةً غُرّا |
وقاسمها بُعدُ المدى في جسومها |
فأفنى بها شطرا وابقى لها شطرا |
ولما دَحَت قُود الهضاب وراءَها |
ورنّحها طولُ القيادِ لها سُكرا |
رمتْ صحصحانَ الرَّى منها بأعين |
تردّد في أعطافه نظرا شَزرا |
هناك دعا داعٍ من الله مسمِعٌ |
فلبَّاك من ضمَّتْ معالمُها طُرَّا |
يحيُّون ميمونَ النقيبةِ ماجدا |
ويَلقون بالتعظيم أعظمَهم قدرا |
ولا قيتَ ربَّ التاج يرفعُ حُجْبَهَ |
ويطردُ ما ناجيته التيهَ والكِبرا |
وحاورتَه حتى شغفتَ فؤادَه |
ألا ربّما كان البيانُ هو السحرا |
رأى فيك ما يهواه مجدا وسؤددا |
فما كنت إلا في مجالسه صدرا |
وحسبُك فخرا أن تجَهزّتَ غاديا |
فقضَّيتَ أوطار النبوّة من كِسرى |
مليكٌ حمَى الرحمنُ بيضةَ مُلكه |
فما في الورى من يستطيع لها كَسرا |
كتائُبه في كلّ شرق ومغرب |
مدرَّعةٌ فتحا مؤيّدةٌ نصرا |
كَفاه نظامُ الملك أكبرَ همّة |
وأتعبَ في آرائه السرَّ والجهرا |
همامٌ إذا ما هزَّ في الخطب رأيَهُ |
فلا عجبٌ أن يُخجل البيضَ والسُّمرا |
إذا هو أمضَى نعمةً قد تعنَّست |
تخيَّر أُخرى من مواهبه بِكرا |
ومن رأيه الميمونِ عقدُ حبالهِ |
بحبلك حتى قد شددتَ به أَزْرا |
لئن كنتَ أنت المشترِى في سمائه |
علوًّا لقد قارنتَ في أفقهِ الشِّعْرَى |
فأصبحتُما كالفرقدَيْن تناسُباً |
فأكرِمْ بذا حَمْواً وأكرم بذا صِهرا |
وقضَّيتَ ثم عطفتَها |
تَبارَى كما ينسابُ في الشَّعَر المِدرى |
وأُبت كما آبَ الربيعُ إلى الثرى |
يَخيط على أعطافهِ حُلَلا خُضرا |
ففي كلّ يوم ما أغبَّ مبشِّر |
يؤدّى إلى بغدادَ من قربك البُشرى |
ولما اطمأنَّت في جَلَوْلاءَ عالجتْ |
بذاك النسيم الرطِب أكبادَها الحرَّى |
فأقسمتَ لا تنفكّ تحت لُبودِها |
إلى أن توافى حَلبةَ القصْرِ والقصرا |
وعُجتَ بها تطوِى منازلَ أربعا |
إلى منزلٍ يا بعدَ ذلك من مَسرَى |
ولله فينا نِعمةٌ إثرَ نعمةٍ |
وعَوْدك محروسا هو النعمة الكبرى |
فلا كان يومٌ لستَ في صدره ضُحىً |
ولا كان ليلٌ لستَ في عَجْزه فجرا |