إليكَ فما الدّنيا وإن عُظِّمت قدراً | |
|
| سوى الدمنةِ الخضراءِ والمحنةِ الكُبرى |
|
ديارٌ براها الله قدماً لحكمِهِ | |
|
| مغيَّبةً عنَّا وأوهبَها عُمرا |
|
وأنشأ منها الخلقَ أمراً يُريدُهُ | |
|
| وأودعَهم فيها إلى النشأةِ الأُخرى |
|
وأجرى عليهم ما يريدُ وقوعَهُ | |
|
| وألهمَهمْ صبراً وواعدَهُمْ أجرا |
|
وفوَّضَ فيها الأمرَ حكماً لنفسِهِ | |
|
| وأتقنَها صُنعاً وأوسعَها برَّا |
|
فهيكلُها يسبي العقولَ تعجُّباً | |
|
| ومنظرُها الأسنى نحيرُ به فِكرا |
|
تتيهُ بما قد خصَّها من محاسنٍ | |
|
| معطَّرةِ الأرجاءِ طيَّبةٍ نَشْرا |
|
وفي كلِّ وقتٍ إنْ نظرتَ لشكلِها | |
|
| تقولُ سلاماً هذه الجنَّةُ الصُّغْرى |
|
مطالعُ أنوارٍ مشارقُ بهجةٍ | |
|
| معارجُ أسرارٍ نميلُ بها سُكرا |
|
نجومٌ وأفلاكٌ تظلُّ جوارياً | |
|
| مدى الدهرِ لا تنحلُّ يوماً ولا تَبرا |
|
شموسٌ وأقمارٌ تغيبُ وتنجلي | |
|
| علينا مدى الأيامِ في القبّةِ الخضرا |
|
رياضٌ وأزهارٌ طيورٌ سواجعٌ | |
|
| فواكهُ أشجارٍ نزيدُ بها شُكرا |
|
عيونٌ وأنهارٌ تسيلُ جوارياً | |
|
| كما الفضةُ البيضاءُ نُفشي بها السِّرا |
|
مآكلُ أقواتٍ مشاربُ لذَّةٍ | |
|
| مطاعمُ لن نسطعْ لأنواعِها حَصرا |
|
ديارٌ براها اللهُ نزهةَ ناظرٍ | |
|
| وطهَّرها بطناً وشرَّفها ظَهْرا |
|
فمِنْ أرضِها الياقوتُ يُخلقُ في الثَّرى | |
|
| ومنها نَرى البيضاءَ تخرجُ والصَّفرا |
|
معادنُ أحجارٍ منابتُ فضَّةٍ | |
|
| مواطنُ أبرارٍ تتيهُ بها فَخْرا |
|
ولكنَّها تفنى ويَبلى نعيمُها | |
|
| وترجعُ بعدَ اليأسِ من حملِها قَفرا |
|
وفي كلِّ قرنٍ إن نظرتَ لشأنِها | |
|
| تُرحِّلُ مَنْ فيها وتنثرهُمْ نَثرا |
|
وتأتي بأقوامٍ وتفعلُ فعلَها | |
|
| فلا خالدٌ تبقيهِ حَيَّاً ولا بَكرا |
|
فلا خيرَ في دارٍ بها الموتُ قاطنٌ | |
|
| يُراقبُ أهليها وإنْ مُلئتْ دُرّا |
|
ولسنا نرى الأفعالَ منها حقيقةً | |
|
| فذلكَ مما يُوجبُ المَينَ والكُفرا |
|
فليسَ لغيرِ اللهِ فيها تصرفٌ | |
|
| إلهٌ تعالى يَخلقُ النفعَ والضَّرا |
|
تدورُ بها الأفلاكُ طبقَ قضائِهِ | |
|
| تباركَ من مولىً إذا ما قَضى أمْرا |
|
فلا زحلٌ في الكونِ يأتي بمحنةٍ | |
|
| ولا منحةٌ في الدهرِ تأتي بها الزّهرا |
|
لِدُنيا براها اللهُ جنَّةَ كافرٍ | |
|
| وأودعَ فيها الموتَ سيَّانِ والفَقرا |
|
وأرسلَ كلبَ الجوعِ فيها على الورى | |
|
| عدوّاً فلم يقبلْ لمعتذرٍ عُذرا |
|
يصولُ على المخلوقِ صولةَ فاتكٍ | |
|
| إذا لم يجدْ قوتاً فيقتلهُ جَهْرا |
|
فمنْ خوفهِ الإنسانُ يصبحُ ناصباً | |
|
| شياكاً لصيدِ القوتِ أنواعُها تَترى |
|
فيجمعُ منها المرءُ بالكدِّ والشقا | |
|
| ليدرأ بالمجموعِ عن نفسهِ الشرّا |
|
وَمن أجلِهِ الإنسانُ يُلقي بنفسِهِ | |
|
| عياناً على المكروهِ في حالةِ العُسرى |
|
فهذا هُو الداءُ الذي حيَّرَ الورى | |
|
| وأمسَتْ به الحوباءُ تستَعبدُ الحُرّا |
|
قديمةُ عهدٍ في الوجودِ وإنَّنا | |
|
| لنحسبُها من وشيِ بُرقعها عُذرا |
|
فكانت وشيطابيل حرباً لآدمٍ | |
|
| عجوزاً لحاها اللهُ تستنبطُ السِّحرا |
|
تخيلُ للأبصارِ حتَّى وإنَّنا | |
|
| لنحسبُ طيرَ الماءِ مِن سحرِها صَقرا |
|
ونحسبُ أنَّ الهرَّ من فرطِ سحرِها | |
|
| إذا عاينَ الجرذانَ مِن هرةٍ نمرا |
|
شديدةُ بطشٍ لا تملُّ تقلُّباً | |
|
| فلا عيشُها يصفو ولا جُرحُها يَبرا |
|
فكم غيبتْ في الأرضِ وجهاً منعماً | |
|
| وكم كسفَتْ شمساً وكم خَسفَتْ بدرا |
|
وكم عفّرتْ بالتربِ خداً مورداً | |
|
| وكم أحرقَتْ قلباً وكم صعَّدتْ زَفرا |
|
وكم خيّلت سِحراً وألقتْ حبالَها | |
|
| وأفنتْ جيوشاً مثلَ داحسَ والغبرا |
|
وكم رفعتْ في الدهرِ قوماً على الهَبا | |
|
| وكم نصبَتْ قوماً ولكن على الإغرا |
|
وكم حلَّ فيها من أناسٍ تقدّموا | |
|
| وهاموا بها عشقاً وتاهُوا بها فخْرا |
|
تلاهَوا عن الأُخرى ومالوا معَ الهوى | |
|
| وغرّتهمُ الدّنيا بزخرفِها قَسْرا |
|
فراحوا ولم ندرِ بماذا يُقابَلوا | |
|
| من الواحدِ القهّارِ في باطنِ الغبرا |
|
فإنْ كان فيما أسلفوهُ فبالحري | |
|
| وإنْ كانَ بالغفرانِ فهوَ بهِ أحرى |
|
دخلْنا إليها مُكرَهين ولم نَزلْ | |
|
| حَيارى بها والمرءُ من شأنِه الحَيرا |
|
ونخرجُ منها جاهلينَ لأنَّها | |
|
| هي الروضةُ الغنَّاءُ والحيَّةُ البَتْرا |
|
فديتُك خلِّ العقلَ عنكَ وَنَحِّهِ | |
|
| فليسَ لهُ فيها مجالٌ ولا قدرا |
|
تخالفَتِ الأقوالُ فيها تبايُناً | |
|
| فلا أحدٌ مِنّا أحاطَ بِها خُبْرا |
|
فما هيَ إلّا دهشةٌ تصرعُ الحجى | |
|
| وحرفٌ غريبٌ في الحروفِ فلا يُقرا |
|
بها مرضٌ أعيا الأطباء والرُّقى | |
|
| متى صادفَت شخصاً فتنوي له الغَدرْا |
|
وإنْ أبصَرتْ في الحيِّ ظبياً مُنعَّماً | |
|
| فَتَصلي له فَخاً وتُوقع بهِ الشَّفْرا |
|
وإن عاينتْ كبشاً غريباً فتَنثَني | |
|
| وتصنع لهُ طوقاً وتَبني لهُ قصْرا |
|
تُعربدُ مهما مسَّها من سفاهةٍ | |
|
| فتحسبُها من سوءِ أفعالِها سَكرى |
|
متى دخلت للسرِّ تبغي طهارةً | |
|
| فتدخلُ باليُمنى وتَخرجُ باليُسرى |
|
وإن وقفتْ ليلاً تصلِّي فريضةٌ | |
|
| فتنوي قبيلَ الفرضِ من جهلِها الوِترا |
|
تستِّر أعلاها بفاضِلِ بُردِها | |
|
| وتكشفُ عمَّا يوجبُ الصَّونَ والسّترا |
|
تميلُ مع العشَّاقِ ميلةَ عاهرٍ | |
|
| فتوسعُهم صَفعاً وتقتلُهمْ قهْرا |
|
وتُبدي لهم دلّاً يذلُّ له الفَتى | |
|
| وتوعدُهُم وصلاً وتنجزُهم حَسرا |
|
فما هيَ إلّا جيفةٌ وكِلابُها | |
|
| عليها مدى الأيّامِ تلقى لهم هَمْرا |
|
فإن واصلَتْنا بالكمال فمرحباً | |
|
| وإن صارمَتنا بالمَلالة فالعقرا |
|
فلا يأسَفِ الإنسانُ إنْ هيَ أدبَرتْ | |
|
| عليها فلا واللهِ إنْ نَبعَتْ دُرَّا |
|
فما هيَ دارٌ للخلودِ وإنَّما | |
|
| بَراها لتلكَ الدارِ فاطِرُها جِسْرا |
|
هبطنا عليها واللعينُ رفيقُنا | |
|
| بأمرٍ قضاه اللهُ قد حيَّر الفِكْرا |
|
وسلَّطه قهراً على الناسِ قولهُ | |
|
| وأجلي عليهم فهي موعظةٌ أُخرى |
|
تعوّضها الملعونُ صفقةَ خاسرٍ | |
|
| عنِ الجنَّةِ الفيحا ليملأَها وِزرا |
|
فصارتْ لهُ داراً مقيلاً وأهلُها | |
|
| عبيداً سوى أبناءِ ضرَّتِها الأُخرى |
|
يصول بها شرقاً وغرباً وقبلةً | |
|
| ولم يُبقِ برّاً مِنْ أذاهُ ولا بَحْرا |
|
ويجري ببعضِ الناس مجرى دمائِهم | |
|
| فيملأهُم فسقاً ويشحنُهم كِبرا |
|
فهذا هوَ الأصلُ الذي جلبَ العَنا | |
|
| لوالِدنا فيما أساءَ بهِ مَكْرا |
|
وحتّى منَ الجنّاتِ أخرجَ عارياً | |
|
| وقد كانَ فيها لا يجوعُ ولا يَعرى |
|
وصيَّرنا فيما تراهُ من البلا | |
|
| بدارِ هوانٍ تُنبتُ الخمطَ والسِّدرا |
|
متى ضحكتْ يوماً تريكَ مودَّةً | |
|
| فتبكيكَ فيما تبتليكَ بهِ شَهْرا |
|
وإن أنعَمتْ عفواً عليكَ بنعمةٍ | |
|
| فتأتيكَ بالمكروهِ في صورةٍ أُخرى |
|
نُعاني بها الأهوالَ في كُلِّ شدَّةٍ | |
|
| إذا حسَرتْ أكمامَها أنشبَتْ ظِفرا |
|
ونهضمُ فيها كلَّ شخصٍ مبددٍ | |
|
| ثقيلٍ يرضُّ الصخر إن وطئَ الصَّخرا |
|
وفيها ضباعٌ تأكلُ الميتَ جهرةً | |
|
| وتعدو على الأعظامِ تتسوَّرُ القبرا |
|
وفيها ذئابٌ مع وحوشٍ كواسرٍ | |
|
| وفيها ارتوت تملأ السَّهلَ والوعرا |
|
وفيها حدأةٌ تخطفُ اللحمَ دائماً | |
|
| وتعلو على الأشجارُ تستعمل الوَكرا |
|
وفيها أناسٌ بالصلاحِ تلبَّسوا | |
|
| ولكنَّهُمْ بالمكرِ فاقوا أبا مُرَّا |
|
فمنهمْ شديدُ المكرِ يسعى بعمةٍ | |
|
| لها عذبة للنَّصب يبغي بها الجرّا |
|
فيأتي إلى النزهاتِ قانصَ سبحةٍ | |
|
| بيمناهُ والتلبيس مالئ به العُسرى |
|
أكولٌ متى ما شامَ قِدراً مُعرَّماً | |
|
| فيأكلُ أكلاً بالغاً يحسف القدرا |
|
ومنهم أناسٌ بالطَّريق تلبَّسوا | |
|
| يرومون جرَّ المالِ بالعمَّةِ الصَّفرا |
|
فمنهم نَرى الدجَّالَ يُبدي ذوائباً | |
|
| ويَمشي كمشي الضُّلِّ بالشالةِ الحمرا |
|
فيرجو بها المضروبَ في الشام عاجلاً | |
|
| ويطمعُ بالمسكوكِ فيما يلي مِصرا |
|
وإن رُمتُ أستقصي مظاهرَ قُبحها | |
|
| وأنواعَهم في الكون تلوي بي الكَثْرا |
|
فأيُّ سرور يلحقُ المرءَ في الدُّنا | |
|
| وفيها رزايا لا نُطيقُ لها ذِكْرا |
|
فما هي إلّا حسرةٌ وندامةٌ | |
|
| يراها غدُ الإنسانِ من باطنِ الغبرا |
|