في لَيلَةٍ حالِكَةٍ كَالهُمومِ |
هابِطَةٍ الجَوِّ بِثِقلِ الغُيوم |
كَأَنَّها قد حُبِلَت بِالرُجوم |
كانَ الفَتى الشاعِرُ مخدِعِه |
يَبكي فَيَجري القَلبُ في أَدمُعِه |
شِعراً يَعيهِ الحُزنُ في مَسمَعِه |
وَكانَت الشَمَعَةُ في حُجرَتِه |
تَنزَعُ كَالمَيِّتِ في ساعَتِه |
أَكلُّ شَيءِ مِثلُها لا يَدوم |
وَكانَت الوحدَةُ كَالمَدفَنِ |
موحِشَةً في ذلِكَ المَسكَنِ |
وَقَد سَطا النَومُ عَلى الأَعيُنِ |
وَاِستَيقَظَ الشاعِرُ من سَكرَتِه |
وَحَوَّلَ العَينَ الى شَمعَتِه |
أَنيسَةِ الأَشجانِ في وُحدَتِه |
وَبَعدَ أَن مَرَّت عَلَيهِ ثَوان |
كَأَنَّها من دامِياتِ الزَمان |
قالَ بِصَوتٍ راعِشٍ مُحزِنِ |
يا شَمعَتي ماذا وَراءَ النَزاع |
ما هذِهِ القَطرَةُ تَحتَ الشُعاع |
وَلِم أَرى فيها اصفِرارَ الوَداع |
في دَمعِكِ الشاحِبِ نورٌ يَذوب |
ماذا تَقولينَ بهِ لِلقُلوب |
لِم يَغمُر الشُعلَة هذا الشُحوب |
أَيَنتَهي الحُبُّ كما تَنتَهين |
يا شَمعَتي يا مَثَل العاشِقين |
لَذّاتُهُ تَأتي وَتَمضي سِراع |
وَإِذ تَلاشى نَفَسُ الشَمعَةِ |
مِثلَ تَلاشي الروحِ في المَيِّتِ |
يا مَدفَنَ الاِنوارِ ماذا وَراء |
هذا الدُجى الحالِكِ هذا الغِطاء |
ماذا وَراءَ اللَيلِ هَل من ضِياء |
لِم يَنقَضي اللَيلُ وَيَأتي السَحَر |
مَهزَلَةٌ من مَهزَلاتِ القَدَر |
في ذلِك اللَيلِ العَصيبِ الطَويل |
تذَكَّرَ الشاعِرُ عَهداً جَميل |
لم يَرَ مِنهُ غيرَ شَطرِ ضَئيل |
إِذا كانَ في مَيعَتِهِ الناعِمَه |
يَحلمُ بِالسَعادَةِ الدائِمَه |
خابَ رَجاءُ الأَنفُسِ الحالِمَه |
يا خافِقاً أَلِلَّهَ ما أَوجَعَك |
ما أَبخلَ الدُنيا وَما أَطمَعَك |
تُعطي وَلا تُمنَحُ حَتّى القَليل |
في ذلِكَ اللَيلُ وَما أَظلَمَه |
ذِكرُ الصِبى في الأَكبُدِ المُغرَمَه |
وَنورُه في اللَيلَةِ المُظلِمَه |
تَذكَّرَ الشاعِرُ فَجرَ الشَباب |
وَذلِكَ الوادي وَتِلكَ الهِضاب |
وَعودَةَ القُطعانِ عِندَ الغِياب |
وَوالِداً مَرَّ مُرورَ الشَبح |
كَأَنَّه يومُ صَفاءٍ سَنَح |
فَقالَ يا قَلبي الى الجَلجَله |
حَملتَ آمالَ الصِبى المُثقَلَه |
وَلم تَدَع مِنها سِوى الأَخيِلَه |
أحلِ غَلواءُ وَأَجلِ العَذاب |
كَتَبتَ لي في الحُب هذا الكِتاب |
يا شُعلَةً مَحجوبَةً بِالهِضاب |
يا قَلبِ |
إِذا بِهِ في الحُجرَةِ المُظلِمَه |
يُصغي إِلى حَشرَجَةٍ مُؤلِمَه |
بَينَ خفوقَ القَلبِ وَالتَمتَمَه |
وَراءَ في قَلبِ الدُجى والِدَه |
يَغيمُ في شَفّافَةٍ صاعِدَه |
من صُلبِ تِلكَ اللَيلَةِ البارِدَه |
كَأَنَّها وهيَ تَشُقُّ القَتام |
لَوحَةُ فَجرٍ في إِطارِ الظَلام |
أَو وَمضَةٌ من شُعلَةٍ مُبهَمَه |
قُدِّستِ يا غَيبوبَةَ الشاعِرِ |
رُؤيا كَمَرِّ الحُلُمِ الطاهِرِ |
أَو كَالهَوى في عَهدِهِ الساحِر |
قُدِّسَت في أَحلامِكِ الشاحِبَه |
قَدَّستِ في آلامِك الذائِبَه |
في روحِكِ الحاضِرَة الغائِبَة |
في كُلِّ ما تَحمِلُ مِنكِ العُيون |
في سورَةِ الحُب وَسُكر الجُنون |
وَفي اِختِلاجٍ الخافِقِ الحائِر |
في جَوفِ تِلكَ اللَيلَةِ البارِدَه |
كَأَنَّها ضَمائِرٌ جاحِدَه |
تخطُرُ فيها فِكرَةٌ حاقِدَه |
وَلِلرياحِ الهوجِ بَينَ الوَرَق |
عَزفٌ كَأَنَّ الجِنَّ فيهِ زَعَق |
فَمَزَّقَ الأَرواحَ ثُمَّ انطَلَق |
تَحَرَّكَ اللَيلُ وَقالَ الخَيال |
من لَيسَ يَبكي في اللَيالي الطِوال |
وَلا يَدمي المقلةَ الساهِدَه |
من لَم يَذُق في الخُبزِ طعمَ الأَلَم |
وَلم يُنَكِّر وَجنَتَيهِ السَقَم |
وَتَسلخِ الأَوجاعُ مِنهُ حِطَم |
مَن لا يَرى في الشَمسِ طيفَ الغُروب |
وَيَسمَعُ اللَيلَ اِختِلاجَ القُلوب |
وَيَرصُدُ الشَمعَة حَتّى تَذوب |
من لَم يَغمس في هواهُ دمه |
من يَمنَع الأَهوالُ أَن تُطعِمَه |
وَلا يَرى في كُلِّ جُرحٍ حِكَم |
من لَيسَ يَرقى ذَروَةَ الجَلجَلَه |
وَلم يُسمِّر في الهَوى أَنمُلَه |
وَيُرفَعِ العَلقَمُ وَالخَلُّ لَه |
مَن يَصرف العُمرَ عَلى المخمَلِ |
وَلا يَذوقُ البُؤسَ في الأَوَّلِ |
وَلا الاسى في مخدِعٍ مُقفَلِ |
لَن يَعرِفَ العُمرَ شعاعَ الإِله |
وَلن يَرى آمالَهُ في رؤاه |
بَل عالِماً يَخبِطُ في مَهزَلَه |
وَاِنسَحَبَ الطَيفُ الى ظُلمَتِه |
يَجُرُّ بِالأَذيالِ من وَمضَتِه |
عَينَ الفَتى الغَرقى بِغَيبوبَته |
حَتّى إِذا سادَ السُكونُ المُخيفُ |
وَكان في الخارِج صَوتُ الحَفيف |
يَعلو شَديداً مِن غُصونِ الخَريف |
أَفاقَ من سَكرَتِهِ الشاعِرُ |
وَقالَ هل يُرجى لَه آخِرُ |
هذا الدُجى الغارِقُ في ثورَتِه |
قَد يَحمِلُ الفَجرَ عَزاءً إِلَيّ |
إِن حَمَلَ النورَ إِلى مُقلَتَيَّ |
فَاللَيلُ قَد أَخنى عَلى كاهِلَيَّ |
يُخيفُني اللَيلُ بِأَرواحِه |
ثائِرَةً كَالهَولِ في ساحِهِ |
وَبِالرُؤى من بيضِ اِشباحِه |
لا أنشِدُ البُؤسَ وَلا أَرغَبُ |
في حَمل حُبٍّ قَومُهُ عُذِّبوا |
فَالحُبُّ في الآلامِ ثِقلٌ عَلَيَّ |
يُخيفُني في مَخدِعي البارِدِ |
خَيالُ حُبِّ مُبهَمٍ جامِدِ |
أَبكَمَ كَالأَرماس يا والِدي |
يُخيفُني اللَيلُ فَأَينَ السَحَر |
يَطرُدُ مِن عَينَيَّ هذي الصُوَر |
وَما عَلَيها من شَقاءِ البَشَر |
كانَ الدُجى لمّا يَزَل ثائِرا |
وَالريحُ تُدمي الأُفُقَ الماطِرا |
بِالبَرقِ جُرحِ المَلإِ الخالِدِ |
كَأَنَّ لِلَّيلِ هَوىً حائِرا |
ذاقَ الأَسى فَلَم يَزَل ساهِرا |