على صفحاتِ العمر خطت يدُ الدهر |
عِظاتٍ لذي الذكرى تُسطرُ بالتبرِ |
عرفتُ بها سرَّ الحياة وكنهها |
وما تحتوي الدُّنيا من الحلوِ والمرِ |
فما العمرُ إلا مرحلاتٌ نجوزُها |
على الشوكِ أَحياناً وحيناً على الزَّهر |
تَشيدُ لنا الأَحلامُ بُرجَ سعادةٍ |
فتنسفُهُ الأيامُ بالنُّوبِ الحُمر |
ومهدٍ به نامَ الصغيرُ مقمَّطاً |
كأني به العصفورُ يرقُدُ في الوَكر |
يُريد حراكاً والقماطُ يصدُّهُ |
فيلبثُ مغلولَ اليدين على قسر |
تُترجمُ عن لوعاتهِ عبَراتُهُ |
فتنثرهُا عيناهُ دراً على النَّحر |
إذا هزَّ صوتُ الطفل مهجة أمهِ |
فبرقُ الهوى ما بين قلبيهما يجري |
تُناغيه نشوى من ملامح وجههِ |
فيُصغي إلى أَنغامها باسمَ الثغر |
وتنشدُهُ شعرَ الهوى فيُعيدهُ |
بلهجتِه العجماءِ سحراً على سحر |
بمرآهُ يغدو السَّهدُ أَشهى من الكرى |
اليها وجنحُ الليلِ ازهى من الفجر |
تراه بمرآة الغرام كأنه |
أَخو البدرِ أو ابهى ضياءً من البدر |
وطوراً تخالُ الدهرَ ينضو حُسامَهُ |
على غصنهِ الميَّاس في زهرة العمر |
فيثقبُ سُوسُ الهمِ جِذعَ فؤَادها |
ويَقذف من حوليهِ موجاً من الذُّعر |
أَلا إِنَّ عيشَ الأُمِ مرٌّ مذاقُهُ |
وعيشَ ابنها في المهد ضربٌ من الأسر |
ويومٍ به طابت عن الناس مهجتي |
فلم ارَ للسَّلوى سبيلاً سوى القفر |
خرجتُ وفي صدري الهمومُ كأنها |
رواسٍ ومن يقصي الرواسي عن صدري |
فمذ اشرفت عيني على زهرة الرُّبى |
وقد كللتها بالجُمانِ يدُ القطر |
رأيتُ جيوشَ البشر شدَّت على الأسى |
فلم تُبقِ للأتراح في الصَّدر من إِثر |
هنالك نهرٌ تعقدُ الريحُ فوقَهُ |
زُرودَ لُجينٍ او سلاسلَ من درَ |
على ضَفَّتيهِ الدَّوحُ مدَّ ظلالهُ |
لهُ نفحاتٌ أَينَ منها شذا العِطر |
إِذا بفراشٍ مر يعدو وراءَه |
صبيٌ ذكت في خدهِ جُذوةُ الحر |
فلم يرَ غيرَ الدوحِ من ملجأ له |
فلاذَ بهِ حرَّانَ من شدة الفر |
وقد وقعت عينُ الفتى بعد ساعةٍ |
على بيت نملٍ حول كدسٍ من البرِ |
فدمَّرهُ ظلماً وشتت شملهُ |
وأتلفَ ما فيهش من النمل والذخر |
فقلتُ بنفسي هذهِ صورةُ الذي |
يُذيقُ الورى كأساً أمرَّ من الصبر |
متى ألفَ الأحداثُ أن ينزلوا الأذى |
بأَعجز خلقِ الله شبُّوا على الغدر |
نظرتُ إلى أهل الشَّبيبةِ نظرةً |
تجلَّت بها شمسُ الحقائق في فكري |
لهم عزَّةٌ قعساءُ تأبى صغارةً |
وهمتهم من دونها همةُ النسر |
يغوصون في بحر المفاخر جهدهم |
ليستخرجوا الدر الثمين من القعر |
أَسودٌ أباةُ الضيم في ساحة الوغى |
لهم عزماتٌ لا تكل عن الصخر |
وأَوطانُهم لا يُستباحث ذمارُها |
يحامونض عنها بالمثقفةِ السمرِ |
رعى الله أشبال العرين وأسده |
وصانهم من عصبة الختل والمكر |
وحيا مَغاوير الحروب تحيةً |
تُرددها في غابها أُسدُ الخِدر |
همُ عدةُ الأوطان يحمونَ عزها |
ببأسٍ على حدِ الظبي ابداً يجري |
ولا نالتِ الجلى الكهولَ فإِنهم |
ليجنون زهر الرشد من فتنِ الخبر |
لهم همةُ الفتيان لكن قلبهم |
بصيرٌ بأَخلاق الورى سابرُ الدهر |
فلا تستفزُّ المطرباتُ قلوبهم |
وليسوا أَوانَ اللهوِ كالخود في الخدر |
فهم بين حدي خفةٍ ورزانةٍ |
نراهم بأَطوادٍ ولا شاربي خمر |
إذا رزقَ الكهلُ البنينَ غذاهمُ |
بآدابه الحسنى وأَخلاقهِ الغُر |
يُلقنهُم في المهد حبَّ غذاهمُ |
ويجعلهم من معشر السوءِ في حجر |
ويحجزُ عن أسماعهم كلَّ لفظةٍ |
تؤدي بهم يوماً إلى هوةِ الوَزر |
ويحجبُ عن ابصارهم كلَّ مشهدٍ |
يُثبتُ في الأذهانِ جرثومةَ الشَّر |
إذا اعوجَّ غصنٌ فيهم هبَّ مُسرعاً |
يثقفهُ غضا فينجو من الكسر |
وإن بدرت منهم بوادرُ حدةٍ |
يؤدِبهم باللحظ لا الضَّرب والهُجر |
فلحظتُهُ أَمضى من السَّيف عندهم |
وهيبتُهُ تُغني عن العُنفِ والزَّجرِ |
وإِن صنعوا صُنعاً جميلاً جزاهمُ |
جزاءً يُحلي عندهم عملَ البرِ |
يُديرُ عليهم من رحيقِ حَنانه |
كؤُوساً تُنسيهم مُعتقة الخمر |
وأشرفُ ما يأتيه في جنبِ خيرهم |
إِزاحةُ سِترِ الجهلِ عن ساحةِ الصدر |
فينُفقُ في هذي السَّبيل نُضارَهُ |
ولا ريبَ أَنَّ العلمَ خيرٌ من الدرِ |
وشيخٍ جليلٍ كلَّلَ الشَّيبُ رأسهُ |
كتكليل غُصنِ الروض بالنور والزَّهر |
إِذا فلتِ الأيامُ غربَ مضائهِ |
فآراؤهُ تُغنيكَ عن طلعةِ الزُّهر |
وإن جنَّ ليلُ المشكلات تألقت |
له حكمةٌ أَزهى من الشهبِ الغُر |
فلا تخطئُ المرمى سهامُ ظُنونه |
ويقرأُ ما في صفحة الغيب بالفكر |
تحفُّ به في كلّ نادٍ مهابةٌ |
كما حُفَّتِ الأبطال بالمجد والنصر |
ومجلسهُ منثورة في أديمهِ |
عُقودُ جُمانس او شُذورٌ من للتبر |
له مطلعٌ زانتهُ هالةُ حكمةٍ |
كأَني بها من حولهِ هالةُ البدر |
ألا إنَّ الشَّيخِ انفعُ للورى |
من العضبِ في كفِ الفتى الباسلِ الغرِ |
فكم نكبةٍ جلَّى الشيوخُ غيومها |
ولولاهمُ ضاقت بها حيلُ القُطر |
وكم غمرةٍ خاضوا على إِثر غمرةٍ |
ولم يحفلوا يوماً بمدٍ ولا جزر |
لقد صقلت كفُّ التجاربِ ذهنهم |
وبالصقلِ يغدو الذهن أجلى من الفجر |
فباتوا على خُبرٍ بأطوار دهرهم |
وعلمٍ بما فيها من النفعِ والضُّرِ |
إذا كر جيشُ العُسر جرد فكرهم |
عليه من الآراء صَمصامةً تفري |
على أنَّ عمرَ الشَّيخِ مُرٌّ ولو غدا |
على عرشِ عز في سما النهي والأمر |
تراهُ أَوانَ القرَّ يهتزُّ رعدةً |
وان حلَّ فصلُ القيظ ذابَ من الحرِ |
ينوحُ على عهدِ الشبيبةِ نادباً |
قواهُ وقد خانتهُ في مغربِ العمر |
فلا غروَ إِن يأُسف على زمن الصبا |
فقد باتَ مثل القوس محدودبِ الظهر |
وأَبصارهُ كلَّت واسنانهُ هوَت |
وفي صدره همٌّ احرُّ من الجمر |
يرى حولهُ أنَّ المنايا رواصدٌ |
لتُنشبَ في احشائهِ مخلبَ الغدر |
وفي يدها المنحاتُ تنحتُ قبرهُ |
وتحفُرهُ كفُّ الردى ايما حفر |
فليسَ يغيبُ الموت عن عين فكره |
ولا تُصرفُ الأنظارُ عن لجةِ القبر |
فتباً لدنيا يغمرُ الناسَ همها |
ولذاتها فيها عصيرٌ من الصبر |
إذا شئتَ ان تحيا حليفَ سعادةٍ |
فأكثر من الحُسنى وأقِبل على البرِ |
فخيرُ الورى من زانَ ايَّام عُمرهِ |
بما يُبهجُ الأَلباب في موقفِ الحشر |