وقفت على باب كل المدائنِ |
تلك التي عفَّرَتها السَموم |
وطافت بها ريحُ عامورةٍ وسَدوم |
أسائلها عن سنينٍ عجافٍ |
عن الموصلِ العَذبِ أم الربيعين |
هل حلمت بعدها بربيعٍ جديدٍ |
أم ان السوافيَ عاثت بساحتها |
أسلمتها لليلٍ من الجَدبِ |
طاف بها طائفٌ |
ثم خلَّفها بعده |
تستكينُ، تجفُ، تُشنِّجُ أوصالها |
رعدةٌ وارتجاف |
أسائلها عن ربيعٍ تبدل، صار هجيرا |
وأُسدٍ بساحاتها مُسِخَت، واستحالت خراف |
|
وقفت على طلل الرقتين |
وقفت مع الفارعة "1" |
هنا جَزِعَتْ، وهنا انتَحَبتْ ذات يومٍ |
وهاجت مواجعها حين قالت: |
( أيا شجر الخابور مالك مورقًا كأنك لم تجزع على ابن طريفِ ) |
فأطرق لم ينبس النهر همسًا |
ولا الشجرُ المُستكين |
وألفٌ فألفٌ مضوا في الطريق |
الذي سار فيه الوليد"2" |
فما ضمهم جدثٌ أو ضريحْ |
مضوا لا بواكيَ من خلفهم |
أو ثكالى تنوح عليهم |
و لا مزقَت جَيبها خَلفهُمْ " فارعة" |
قد انخرسَ النهرُ |
أعياهُ ردُّ الجواب |
هو الشاهد الأبديُّ فقط |
ليس يعنيه فصل الخطاب |
|
وقفت على طَلَلِ الرقتين |
سمعتُ حبيب بن أوسٍ"3" يُتمتِمُ: |
بالشام أهلي وبغداد مَهوى الفؤاد |
وإنيَّ بالرقتين مقيمٌ |
وفي مصر لي أخوةٌ وصحابٌ |
ويجمعنا الشمل والانتساب |
وضاع النداءُ سُدى |
ولم يبقَ إلا الصدى |
وحيدًا ترددَ عَبرَ المَدى |
وحشرجةٌ مثل طعن المُدى |
تغمغمُ: ( يا ناس ما في حدا ) |
|
وقفت ببابِ المَعرةِ يومًا |
وكان الحكيمُ المَعرّيُّ يحمل هامته |
بين كفيه، يمضي بها نحو جبانةٍ |
في ضواحي البلد |
وحيدًا يُشيِّعُ جثمانهُ |
لم يَرِقَّ لبَلواهُ إنسٌ |
وما خفَّ منهم إليهِ أحَدْ |
فما أبصروه يقينًا |
هو المبصرُ الفردُ فيهم |
وكل العيون سواه اعتراها عمًى ورمد |
|
وقفت بباب حَلبْ |
تسَوَّرْتُ قلعتها واستغثتُ بها |
حينَ جدَّ الطَلَبْ |
أنادي عليَّا "4" ودولته |
أين سيف العرب؟ |
ومات النداءُ على شفتيَّ |
فما ثمَّ غير سيوفٍ مُهشمةٍ |
نُجِرَت من خشبْ |
وخيلاً تُسَرَّجُ للروم يومًا |
وألفًا نُسرِّجها للعرب |
وجدت أبا الطيبِ المُتنبي |
يَغذُّ المسيرَ ويطوي الحِقَبْ |
يُنَتِّفُ من جَزَعٍ مفرقيهِ |
ولِحياهُ قد عُفِّرا بالتُرَبْ |
ويصرخ: يا ناسُ قد قلت قولاً |
وأعلنتها صرخةً من غضب: |
همُ الرومُ خلفكَ ليسوا أمامك "5" |
لا تَخدَعَنْكَ وُجوهُ العرب. |