صوت من العالم العلويِّ ناداني |
لبَّيْكَ لبَّيْكَ! لا آنٍ، ولا واني |
ما أعذَبَ الصَّوتَ! ما أَشجاه من نَغَمٍ |
سمعتُهُ بِجَناني لا بآذاني! |
وكيف تسمعُهُ أُذْنٌ، ويحملهُ |
موْجُ الأَثير حروفًا وهْوَ رُوحاني؟ |
لبَّيْتُه بفؤادٍ ملؤه وَجَلٌ |
وصيِّبٍ من دموعِ العين هتَّان |
كيف الوقوفُ على باب الرسولِ، وفي |
يدي صحائِفُ زلاَّتي وعِصياني؟ |
دارَ النُّبوَّةِ، ذنبي عنك أَبْعَدَني |
وحُسْنُ ظَنِّي بربِّي منكِ أدناني |
لم يَدْر قَدْرَكِ مَنْ في ذات أجنحة |
أَتى يزورُكِ، أَو في ذاتِ سُكَّان |
هلاَّ أَتيتُكِ سيَّارًا على قدمي |
أَوْطَارَ من حَرِّ شوقي بي جَناحان؟ |
ما غبتِ غني، وإِن لم يمتلئُ بصري |
من أَهلكِ الصِّيدِ أَو من رَبْعِكِ الغاني |
قد كنتُ ألقاكِ في لَوْحي، وفي كُتُبي |
وفي سطور أَحاديثي، وقرآني |
مازلتِ رسمًا جميلاً في مُخَيِّلتي |
حتى كأَنَّا التقينا منذ أَزمان |
كأنني لستُ ضيفًا عند أَهلك، بل |
هم في ربوعِهمُ الفيحاءِ ضيفاني |
ما طَرِبْتُ لِلَحْن ليس يذْكرُ لي |
ما فيكِ من علَمٍ، أو فيكِ من بان |
الله يعلم كم حركِت في خلَدي |
من ذكريات، وكم هيَّجتِ أشجاني! |
كم في دُروُبك من درب أَصَخُتُ له |
كأنه بِحديث الأَمس ناجاني |
لِي من صعيدك أَفواهٌ، وأَلسنةٌ |
بقدر ما فيه من رَمْل، وكُثْبَان |
يا جيرةَ الحرَمَينْ الآمِنينَ، لكُم |
أُهدي التحيَّة من رَوْح ورَيْحان |
الله أَورثكم مجدًا يُقِرُّ بهِ |
قبل الحبيب لسانُ الحاسد الشاني |
والله شرَّف مغناكم، وشرَّفكم |
خيرُ البقاعِ أَقلَّت خيرَ سُكَّان |
ما للشرابِ وردنا ماءَ زمزمكم |
بل للطهارة من رجس وأَدران |
بالله، لا تُتْرعوا من مائها قدحي |
بل فاغمُروا جسدي منها بطوفان |
هنا رحيق، عتيقٌ، حلّ مشربه |
فيه طهارةُ أرواح وأَبدان |
هنا مفاتيحُ أَغلاقِ السماء، هنا |
باب الوصول إلى جنَّات رضوان |
هنا بني المصلحُ الأُميُّ جامعةً |
على أَساسَيْنِ من: علم، وعرفان |
على قواعدَ من هدْى النُّبوَّة، لا |
على قواعدَ من صَخْر وصَفْوان |
وكيف لا ورسولُ الله منشؤها؟ |
جلّ البناءُ، وجلَّ المنشئُ الباني! |
ما كان طلابُها إِلا شراذمَ من |
رعاة إِبلٍ، ومن عباد أَوثان |
ربَّى العتيقَ أبا بكر بها، وأَبا |
حفص، وربّى عليًا، وابْنَ عفَّان |
طلاَّبُها في ربوع العالم انتشروا |
مبشِّرين بإِصلاح وعمران |
وسمحة من سماء الله مُنْزَلة |
ومُحْكم من كلام الله ربّاني |
فيها تخرّج سُوَّاسُ البريّة من |
أدنى المحيطِ إلى أَقصى خُراسان |
ساسوا الشعوب بأَحكام الكتاب؛ فما |
أَحسّ شعبٌ بجَوْر، أو بطغيان |
سماحةٌ عُرفَ الدّينُ الحنيفُ بها |
ما فرَّقَتْ بين ألوان وأديان |
من كلّ مِسْعَرِ حرب يوم معركةٍ |
وكلِّ نابغة فذٍّ وفنَّان |
أَجلَّهم كلُّ ذي علم وفلسفة |
وهَابَهم كلُّ ذي جاه وسلطان |
«الله أكبر» كانت سرَّ قوتهم |
على الجبابرِ من فُرْس ورومان |
شاد البُداةُ حضارتٍ بها، وبها |
ثَلُّوا عروشًا، وسَلُّوا دُرَّ تيجان |
لا حصنُ قيصر أَغنى عنه زحفهمو |
ولا احتمى منهم كسرى بإيوان |
والأَمر لله، دارَ الدهر دورتهُ |
فأصبح القومُ شاءً بين ذؤبان! |
قد جال في أَمْسِهم فكري؛ فأضحكَني |
وجال في يومهم فكري؛ فأبْكاني!! |
يا ويحَ قومي! نَسُوا الله الكبيرَ؛ فلم |
يذكرْهُم اللهُ، نسيانٌ بنسيان! |
يا ربِّ، شعبُك يشكو ما أحاط به |
من الخطوب، فأدركْ شعبَك العاني |
أدْركْ بلطفك شعبًا غطَّ في وَسَن |
على تُخوم عدوٍّ غيرِ وَسْنان |
يا سيِّد الرُّسْل، لم أَنْشِدْك ممتدحًا |
فأنت فوق مزاميري وألحاني |
وما عليَّ -إذا أَنشَدْتُ- من حَرَجٍ |
كمْ كنتَ تُصْغِي إلى إنشاد حسَّان |
لمَّا رأَيتُ القرابينَ التي قدِمَتْ |
بها الوفودُ؛ جَعلتُ الشعر قُربْاني |
لو استطعتُ، نظمتُ الشعر من بصري |
ونور قلبي، وبعضُ الشعر نوراني |
يهونُ عنديَ إن أكسِبْ رضاك به |
ما نال أحمدُ من كفِّ ابن حَمْدان |
بل دوِن نظرةِ عطفٍ منك واحدةٍ |
ملكُ السماء وملك الأرض في آن |
إني لأَطْرُقُ بابَ المصطفى بيدٍ |
بيضاءَ لم تتعوَّدْ طرقَ بيبان |
وأبسطُ الكفَّ أستجدي رضاه، وما |
بسطتُ كفي لذي مَنٍّ وإحسان |
وأسفحُ الدمعَ سهلاً في حِماه، وكم |
كفَّتْ عن الدمع يوم الروع أجفاني |
لا أَكتم اللهَ ما أَسلفْتُ من زَلَلٍ |
وهل يغطِّي عليه طولُ كتماني؟ |
إذا جوارِحيَ اللاَّتي جنَتْ شهدتْ |
بما جنت، كان إقراري كنكراني |
جاهدتُ، يا ربِّ، أعدائي فما وهَنت |
قواي، لكن جهادُ النفس أعياني |
إن عدتُ من حربها الشَّعْرَاءِ منتصرًا |
حينًا، فكم عدتُ أحيانًا بخذْلان! |
والنفسُ أفتَكُ بالإنسان من سَبُعٍ |
ضارٍ، وأرْدَى له من نابِ ثعبان |
ماذا أقولُ؟ أقول الله: قدَّر لي |
إن شاء أسْعدني، أو شاء أشقاني |
أو أدَّعي أنَّ لي أمَّارةً أمَرتْ |
أو أن شيطانِيَ الشِّرِّيرَ أغواني |
أستغفرُ الله! ذنبي لستُ أجحدُهُ |
لكنْ على الغير يُلقي التهمةَ الجاني |
يا رَبِّ، إن لم تُقِلْ ذا عشرةٍ، فلِمَنْ |
ما في جِنَانِكَ من حُور وولدان؟ |
لمن بنيْتَ جنانَ الخُلْد دانيةً |
قطوفُها، ذاتَ أشجار وأفنان؟ |
لِذاتِكَ العصمةُ الكبرى بها انفردت |
وعصمةُ الناس من وزر وبهتان |
وأنت أحُنَى على العاصين أنفِسهم |
من كل أمٍّ رءوم، أو أب حان! |
ما زاد في ملكك الأَوَّابُ خردلةً |
أو ناله المذنبُ العاصي بنُقصان |
يجني على نفسه الجاني، ومن وَزَعَتْ |
يمينُه الخيرَ في الدنيا هو الجاني! |
ومن أكون بِكَوْن أنت مُبْدِعُه |
أقطرة بين أمواج وشُطْآن؟ |
أم ذرَّةٌ في فضاءِ لا يُحِسُّ بها |
لم أدر ما كُنْهُهَا في العالم الفاني؟ |
سبحان من يعلم الأسرار أجمعها |
وسرُّه هو أعيا كلَّ إنسان! |
يا ربِّ، إن كنتُ قد قصَّرتُ في نُسُكي |
فما تسرَّبَ شَكٌّ نـحو إيماني |
ما جاءني فيك شيطاني يشكِّكُني |
إلا وعاد بثوب الخزي شيطاني |
وكيف لا، ورسولُ الله بَيَنِّتي |
وحجَّتي أنت، والقرآن برهاني؟ |
يا رُبَّ يوم نهاني فيه خوفُك عن |
لهو، وغيريَ يلهو بابنة الحان |
ورُبَّ معصيَة لم آتِها وَرَعًا |
والنفسُ تأمرُني، والدينُ ينهاني |
ولا أَمُنُّ على ربِّي بطاعته |
إني أعوذ به من كل مَنَّان |
عصيانُ ربِّكَ ذنب واحد، فإذا |
يئستَ من عفوِه، فالذنب ذَنبان |
لبَّيْكَ، يا رب، لا آلُوك تلبية |
حتى تمنَّ على ذنبي بغُفران |
سِيَّان: إن أقضِ، أو أرجعْ إلى وطني |
ما دمتَ تشملُني بالعفو، سِيَّان |
فإن أعُدْ عدتُ مغفورَ الذنوب، وإن |
أمُتْ فحصبُ رسولِ الله جيراني |
لْيس التَّشبُّتُ بالأَوطان من أربى |
كُلُّ البلادِ -بلاد العرب- أوطاني |
كَهْفٌ بأرض رسول الله أرْوَحُ لي |
من قُبَّة ضُرِبَتْ في ظلِّ بستان |
فيم القباب على الأموات نَنْصبها؟ |
يكفي الدفينَ بجوف الأرض شبران! |
الخاملون من الأحياء كم طلبوا |
على حساب دفينٍ رِفْعَةَ الشان |
لا تبتغوا المجدَ من تشييع مَيِّتكم |
أو المغالاةَ في قبرٍ وأكفان |
يا رَبِّ، قد عشتُ في دُنياي مغتربًا |
ويلاه إنْ اغْترِبْ في العالم الثاني! |
حاشاك، يا رَبِّ، في أُخراي تَحْرمُني |
يا ربِّ، حَسْبيَ في دنياي حرماني |
أستغفر الله من كُفران نعمتِهِ! |
بل فوق ما أَسْتحقُّ اللهُ أعطاني |
ألم يجدِّني أخا غيّ فأرْشدَني؟ |
وهائمًا غير ذي مأوىً فآواني؟ |
ألم يجدني أخا جهلٍ فعلَّمَني؟ |
وعائلاً غير ذي وجْدٍ فأغناني؟ |
وما البكاء على الدنيا وزخرفها؟ |
شاهت ولو أنها دنيا سليمان! |
وما أُبالي بما في الكون أجمعِه |
إنْ صحَّ منه الرضا عني وأرضاني |
لبيك مِلْءَ فمي، لبَّيْك ملْءَ دَمِي |
لبَّيْك يا رب من قلبي ووِجداني |
إليك شفَّعْتُ من تُرْجَى شفاعته |
يا رب، إن خَفَّ يوم الحشر ميزاني |