نهضتَ بما تَنُوءُ به الجبالُ |
فكيف يطول عمرُك يا جمال؟ |
رويدك، يا جمال، فأنت تشكو |
وللجسد الذي يشكو احتمال |
فتًى لم يستكنْ للداء لَمَّا |
غزاه، كأن غزوته احتلال |
أيحسب أن داء القلب خصمٌ |
وأن الحرب بينهما سِجَال؟ |
وما أخْنى عليه الداء لكن |
شجاعتُه هي الداء العُضال |
صريعَ القلب، ما خَلَّفْت قلبًا |
يصدر لم يُخَامِرْهُ اعتلال |
أيشكو قلبُك الخفَّاقُ ضِيقًا |
وقلبك لا يحيط به خَيَال؟ |
وفيه لكل محزون مكانٌ |
وفيه لكل مكروب مجال؟ |
أيسكت، والقلوب لها وَجِيبٌ |
وييبَس، والرياض لها اخضلال؟ |
أيسكن والكواكب دائراتٌ |
كأنَّ الكون ليس به اختلال؟ |
أيُعْوِزُهُ دم، ولنا عروقٌ |
جرت فيها دماء لاَ تُكَال؟ |
علا تشدُّ رحلك يا جمال؟ |
رويدَك! لم يَحِنْ لك الارتحال |
رسالتُك التي أنفَقْتَ فيها |
حَيَاتَك، ما أُتِيح لها الكَمَال |
لكم عَلَّمتنا صبرًا جميلاً |
وأين الصبر بعدك والجمال؟ |
وما نَعْصِي نصائحَك الغَوَالي |
ولكن كيف يمكن الامتثال؟ |
مصابُك لا تخفِّفُه دموعٌ |
ومجدك لا يصوِّرهُ مَقَال |
سَمَوْتَ إلى السُّهَا حيًّا، وَمَيْتًا |
وموتك ليلةَ الإسْرَاء فَالُ |
كأني بالتراب عليك يبكي |
ويصرُخُ فوق قبرك إذ يُهَال |
جرى النيلُ الحزين عليك دمعًا |
وسال دمًا على البطل «القنال» |
صخور السد بعدك ناطقاتٌ: |
بأنْ لا شَيءَ في الدنيا محال |
بحيرةُ ناصرٍ ماذا دَهَاهَا؟ |
دموع تلك أو ماء زلال؟ |
قبضتَ على أزِمَّتها بكفٍّ |
كأن بنانَها قُضُبٌ صقال |
ويختلف الرجال كما أرادوا |
فإن أومأت أنت، فلا جدال |
وتعلم أنَّ عرش الحكم سُهْدٌ |
وجهد، لا دلالٌ واختيال |
وأنَّ مَن استقر عليه، تُلْقَى |
على كتفيه أعباء ثِقَال |
فلم يغمض له في الليل جَفْنٌ |
ولم يهدأ له في الصحو بال |
إذا كانت عروسَ الشرق مصرٌ |
فأنت بخدِّها الوَرْدِيِّ خال |
صَمَتَّ، وكم خطابٍ منك دَوَّى |
بأسماع الورى وَهْو ارتجال! |
إذا أطلقْته أصغى جَنُوبٌ |
إليه، وأرهف الأُذنَ الشَّمَال |
وشر الصَّمت صَمْتٌ مِنْ بَلِيغٍ |
له في المحفل الخُطبُ الطوال |
حديث لا تكلُّفَ فيه، باد |
ولا بادٍ عليه الافْتِعَال |
إذا أَلقيته وسَط احتفال |
تكهْرَب أو تمغطسَ الاحتفال |
تزيِّنُهُ حقائقُ سافراتٌ |
سفورَ الغِيد تبرزها الحجال |
وما لغة السياسةِ غيرُ زيْفٍ |
وما مدلولها إلاَّ ضلاَل |
وخير القول ما أملاه طبْعٌ |
وأصدقُه هو السِّحْرُ الحلال |
عهدتك تبتني للخُلْقِ رُكْنًا |
بعصر ساد فيه الانـحلال |
تريد لهذه الدنيا سلامًا |
تآخى اللَّيْثُ فيه والغزال |
وعهدًا من رخاءٍ؛ لا فقيرٌ |
يمد يديه فيه، ولا سؤال |
فما في الناس من بَشم عَلِيلٍ |
ولا طاوٍ أضَرَّ به الهُزَال |
ولا شعبٌ تحكَّم في سواه |
ولا عانٍ برجليه شِكال |
تريد العيش تسويةً وتَأبَى |
إرادتُك الطبائع والخصال |
وكيف يسودُ في الدنيا سلامٌ |
إذا لم يَحْم حَوْزَتَه القِتَال؟ |
وقالوا: عاش في دنياه فذًّا |
فقلت: ومات موتًا لا يُنَال |
وشُيِّعَ نعشُه في مِهْرَجَان |
تحفُّ به المَهابةُ والجلال |
وماج الناس حولَ النعشِ مَوْجًا |
كأن الحزن ذَؤَبهُمْ؛ فسالوا! |
مشينًا، لا نصدِّقُ ما نراه |
وكيف نَرَى وللدَّمْعِ انهمال؟ |
نُكذب مَوْته، ونشكُّ فيه |
ولا شكُّ، هناك ولا احتمال |
فَلَمَّا طاشت الآمال قلنا |
-على مضض-: إلى الله المآل |
ومالوا بالرَّئِيس ليدفنوه |
فهل مال المقطم حين مالوا؟ |
وما سالت دموعُ العين إلا |
لتطفئ مهجةً فيها اشتعال |
وبعض الدمع ذوبُ القلب سَالتْ |
عُصَارتُه، وبعض الدمع آل |
نعاه الناس في شرق، وغرب |
كأنهموا له صَحْبٌ، وآل |
وما ورِث السيادةَ عَنْ جدودٍ |
ولا شهر اسمَهُ عَمُّ وخال |
فقل لمُفَاخر بأبيه: هل من |
أب للشمس؟ وابنُ مَن الهلال؟ |
إذا فخر العصامِيُّون يومًا |
بأنفسهم، فأَتْتَ له مثال |
تعالى الله! إن الموت حق |
وما للطبِّ في الموت احتيال! |
وكم مُتَدَثِّر صُوفًا وقطنًا |
حِذَار البرد أدركه السُّلاَل! |
وكم عينٍ مُكَحَّلَةً بسحر |
لها في القبر بالترب اكتحال! |
ألا ليت العظيمَ يَظَلُّ حيًّا |
ولا يعرُوه شَيْبٌ واكتهال! |
دَفَنَّاه بأيدينا، وكُنَّا |
نُرَاعُ إذا أَلمَّ به سُعَال! |
قضَى -كابن الوليد- على فراش |
وكم أخْطَاه غَدْرٌ واغْتِيَال |
فلا نام الجبانُ قريرَ عين |
ولا صَلَحَتْ لوَاهي العزمِ حال |
إذا حان الرَّدَى، فالماء سمُّ |
كأن الماء تنفثُه صِلاَلَ |
وإن كُتبتْ لمخلوق حياةٌ |
تثلمت الأسنَّةُ والنِّصَال |
ولا يفنى عظامُ الناس، لكن |
إلى التاريخ مَؤتُهُم انتقال |
حياةٌ في صدور الناس، أو في |
بطون الكتب ليس لها زوال |
سَلُوا رَكْبَ العروبة في البوادي |
تَخُبُّ به النَّحَائب والجمَال |
ببَطْن الأرض تسترهُ وهادٌ |
وفوق الأرض تُظْهِرُه تلال |
سَلُوه: عَلاَمَ ينتحب انتحابًا |
وتنتحب الرَّوَاحلُ والرِّحال؟ |
لقد عصفت بحاديه السَّواقي |
وغَطَّتْه الجنادلُ، والرِّمَال |
وظل الجسْمُ يتبعه، ولكن |
جمالٌ لم تَغبْ مَعَهُ الظلال |
كأني بالفقيدِ مِنَ الأعالي |
يشاركنا إذا احتدم النِّزال |
وتهتف روحه: مالي تراث |
أخلفه لكم إلا النِّضال |
وإلا ما ورثتم من خلالي |
ونِعْمَتْ ثروةً تلك الخِلال |
جنودَ العُرْبِ، والوُا الزحف، لَسْتُمْ |
كتائبَ ناصر إن لم توالوا |
وإن تُمْددْ أعاديَكم بجند |
أبالسةُ الجحيم، فلا تبالوا |
وغالوا بالنفوس، فإن ينلها |
من الأهل الهوان، فلا تغالوا |
وحرب الأهل -ما دارت رحاها- |
مَغبَّتُها على كل وَبَال |
أفي حرب المصير مع الأعادِي |
يَدبُّ إلى صفوفكم انفصال؟ |
أليس لكم بِمَنْ غَصَبُوا حماكم |
عن الشحناء بينكم اشتغال؟ |
دماءُ الأهل في الأُرْدُنِّ سالَتْ |
وقُطِّعَت الوشَائجُ والحبَال |
وصال به الجنودُ أسودَ غَابٍ |
فليتهمو على الأعْداء صالوا! |
إذا انتصر الشقيقُ على شقيقٍ |
فَيُمْناه أصابَتْها الشِّمَال |
لعمرك، ما العروبةُ مَحْضُ فَخْرٍ |
بأسلاف لنا كانوا، وَدَالُوا |
ولكنَّ العروبةَ صدقُ عَزْمٍ |
ومبذولان: أرْوَاحٌ، ومال |
وإحْيَاءٌ لأمْجَادِ الأوَالى |
وأقوال تُعَزِّزُها فعَال |
وأفئدة رَسَا الإيمان فيها |
لها بالله في المحَن اتصال |
إذا أنتمُ إلى العرب انْتَمَيْتُمْ |
فما تكفي العَبَاءَةُ والعِقَال |
جُنُودَ العرب، ناداكم جمالٌ |
وصاح بكل مِئْذَنَة بلال: |
عِدَاكم مالهم أبدًا عُهُودٌ |
وهل للرقص في المشي اعتدال؟ |
عهدناكم إلى الجُلَّي عِجَالاً |
وعند الفيْءِ ما أنتم عجال |
سليلُ العُرْب عند الحَرْب ثَبْتٌ |
له وجهٌ وليس له قَذَال |
لئن تَكُ في حَزِيرَانَ جَمَالاً |
فما عقمت، ولا قَلَّ الرجال |
جمالٌ غاب، والعدوان بَاقٍ |
وجرح القُدس دَام لا يزال! |
وتندمل الجراحُ مع الليالي |
وجرح القدْسِ ليس له اندمَال! |