يا ليتما رجع الزمان الأول |
زمن الشباب الضاحك المتهلل |
عهد ترحلت البشاشة إذ مضى |
وأتى الأسى فأقام لا يترّحل |
ولّى الصبا وتبددت أحلامه |
أودى به وبها قضاء حوّل |
حصدت أنامله المنى فتساقطت |
صرعى ، كما حصد السنابل منجل |
فالروح قيثار وهت وتقطعت |
أوتاره، والقلب قفر ممحل |
والشيب يضحك برقه في لّمتي |
هذي الضواحك ، يا فؤادي، أنصل |
أشتاق عصرك، يا شبيبة ، مثلما |
يشتاق للماء النمير الأبل |
إذ كانت الدنيا بعيني هيكلا |
فيه إلاهات الجمال ترتل |
من كلّ حسناء كأنّ حديثها |
السلوى أو الوحي الطهور المزل |
وأنا وصحي لا نفكر في غد |
فكأنّ ليس غد ولا مستقبل |
نلهو ونلعب لا نبالي ضمّنا |
كوخ حقير أم حوانا منزل |
نتوهّم الدنيا لفرط غرورنا |
كملت بنا وبغيرنا لا تكمل |
ونخال أن البدر يطلع في الدجى |
كيما يسامرنا فلا نتململ |
ونظنّ أنّ الروض ينشر عطره |
من أجلنا ، ولنا يغنّي البلبل |
فكأنّما الأزهار سرب كواعب |
وكأنما هو شاعر يتغزّل |
في كلّ منظور نراه ملاحة |
وسعادة في كلّ ما نتخيّل |
لا شيء يزعج في الحياة نفوسنا |
لا طارىء ، لا عارض، لا مشكل |
فكأننا في عالم غير الذي |
تتزاحم الأيدي به والأرجل |
وكأننا رهط الكواكب في الفضا |
مهما جرى في الأرض لا تتزلزل |
ألناس في طلب المعاش وهمّنا |
كأس مشعشة وطرف أكحل |
كم عنّفونا في الهوى واسترسلوا |
لو انهم عزفوا الهوى لم يعذلوا |
ولو انهم ذاقوا كما ذّقنا الرؤى |
شبعت نفوسهم وإن لم يأكلوا |
زعموا تبذّلنا ولم يتبذلوا ، |
إنّ الحقيقة كلّنا متبذّل |
حرموا لذاذات الهيام وفاتنا |
درك الحطام ، فأينا هو أجهل؟ |
إني تأملت الأنام فراعني |
كيف الحياة بهم تجدّ وتهزل |
لا يضبطون مع الصّروف قيادهم |
إلا كما ضبط المياه المنخل |
بينا الفتى ملء النواظر والنّهى |
فإذا به رقم خفي مهمل |
يا صاحبي، والعمر ظل زائل ، |
إنّ كنت تأمل فيه أو لا تأمل |
ألذكر أثمن ما اقتنيت وتقتني |
ولحبّ أنفس ما بذلت وتبذل |
قيل اغتنى زيد فليتك مثله |
أنا مثله، إن لم أقل ، أنا أفضل |
ألشمس لي وله ، ولألاء الضحى |
والنّيرات، ومثلما المنسوّل |
أما النّضار فإنه ، يا صاحبي |
عرض يزول وسلعة تنقّل |
ما دمت في صحبي ودام وفاؤهم |
فأنا الغنّي الحقّ لا المتموّل |
أنا لست أعدل بالمناجم واحدا |
وأبيع من عقلوا بما لا يعقل |